أغبى رجل في العالم

لمحتها من بعيد، تجلس عند المنعطف، ترتدي السواد، وتضع في حجرها رضيعا ملفوفا في ملاءة. وتذكرت كلام نضال، زوجتي: « عليك في كل الأحوال أن تتمشى قليلا؛ بطنك تتدلى، ثم من يدري؟ قد تنتبه إلى أن ثمة أشياء في الحياة أهم من الجري وراء الصفقات وتتبع أخبار البورصة وعقد الاجتماعات...».

قد تكون محقة؛ منظر المتسولات في الصباح الباكر مثلا...!

تنهدت بإحباط وأنا ألعن اللحظة التي وافقت فيها على إعارة سيارتي لأخيها. قرر أن يقضي عطلته في طنجة، قرب عائلة خطيبته، وحرص على أن يأخذ مني كل ما من شأنه إبهار الفتاة ووالديها، وإقناعهم بأنه رغم راتب المدرس المتواضع الذي يتقاضاه إلا أن بإمكانه أن يعيِّشها أحسن عيشة بفضل صهره مدير الشؤون المالية الميسور. أعارته نضال ثيابي وأحد هواتفي وسيارتي. وها أنا أمشي لشغلي على قدمي وأتطلع حولي لأرى شيئا غير البؤس المرمي على قارعة الطريق. المتسولة وطفلها، وصندوق القمامة الذي نثرت القطط محتوياته، وبائع السمك المجهد الذي يجر وراءه عربة تفوح منها رائحة العفونة، وركاب الأوتوبيس المساكين الذين يتطلعون إلى الطريق بقنوط.

أشحت بوجهي، ووجدت نفسي أنظر إلى المتسولة. ما قالته زوجتي عن سمنتي دفعني إلى أن أقرر المشي على قدمي إلى المكتب. رفعت المرأة رأسها وحبست أنفاسي، وأنا أرى منظرا لم أكن أتوقعه على الإطلاق. المتسولة شابة جميلة، جميلة جدا، بل فائقة الجمال. عينان كبيرتان، وأنف لطيف، وفم ممتلئ صغير، وبشرة بيضاء نقية، وخصلات بنية ناعمة تنفلت من غطاء الرأس الخشن الداكن. ماذا تفعل هذه على الطرقات؟

مدت يدها نحوي، سحبت ورقتين من جيبي ووضعتهما في يدها النحيلة الناعمة.

دعت لي ولم أتحرك من مكاني.

مثلك لا يتسول. لا أدري إن انفلتت الكلمات مني، لكنها رفعت حاجبيها المرسومين بدقة وارتسم شبح ابتسامة على وجهها. بلعت ريقي، وابتعدت.

 امرأة فاتنة. كيف انتهى بها المطاف متسولة؟

بحثت عنها بلهفة في طريق عودتي، ودق قلبي بفرح وأنا أراها. ولم أستطع منع نفسي من الاقتراب منها وإلقاء تحية حارة. نظرت إليَّ نظرتها الساحرة، وقدمت لها بعض المال. طفلها نائم كما تركته في الصباح.

سألتني نضال عن يومي، هل توقف قلبي أو تورمت رجلاي بسبب الجهد الذي بذلته في المشي من البيت إلى المكتب؟ كانت السخرية تقطر من كلماتها. وتشفيت في أعماقي، وأنا أفكر في أنها لا تدري كم هي صادقة، فقلبي فعلا توقف، ورجلاي لم تعودا تحملانني من فرط انبهاري بالمتسولة الحسناء.

صارت أيامي أحلى من وقتها. أخرج إلى المكتب وأنا أكاد أركض من اللهفة، وأعود وقلبي يدق. أقف أمامها مرتبكا، أمد يدي بالحسنة، وأذوب في الوجه الجميل الذي بدأ يتبسم لي، ويكاد يضحك أحيانا. وددت أن أعرف كيف أقول لها: إن عليها أن تتوقف عن ممارسة تلك  المهنة  التي لا تليق بها. وددت لو أقدر وأنهضها من على الأرض، وآخذها إلى مكان آمن، وأرعاها، وأحنو على صغيرها، و... لا أعرف ماذا أريد بالضبط. المرأة سحرتني، ولم تعد الدنيا تبدو لي كما كانت من قبل، لكنني لم أجرؤ على فعل شيء مما أحلم به.

اقترب موعد عودة صهري، وبدأت زوجتي تمازحني وتهنئني بقرب انتهاء فترة أشغالي الشاقة، وعودتي إلى بحبوحتي السابقة. وفي أعماقي كنت أتمنى لو يقرر أخوها تمديد عطلته إلى ما لا نهاية.

تملكني الإحباط، وأنا أرى نفسي محشورا في زاوية ضيقة. وتأزم حالي تماما عندما اختفت الجميلة ذات صباح.

كان قد مر أسبوعان على تعرفي عليها. صهري يستعد للعودة في الأيام الثلاثة القادمة، وأنا أحبِّك مختلف السيناريوهات؛ لإيجاد ذريعة لاستمرار استغنائي عن السيارة، وفاتنتي البائسة ترحل دون مقدمات.

لم يدر أحد شيئا عن الجحيم الذي وجدت نفسي أتخبط فيه. نضال ظنتني مشغولا بصفقة ما، وتنبأت لي بأنني سأصاب بلوثة إن استمررت في إغراق نفسي في ضغوط العمل، ومرة ثانية كانت قد أصابت دون أن تعلم شيئا عن حقيقة وضعي.

كنت في طريقي للإصابة فعلا بلوثة.

تركت الحسناء فراغا مرعبا في حياتي، وحين ناولتني نضال ذات مساء كئيب إحدى مجلاتها النسائية لعل مواضيعها الخفيفة تنسيني مشاغلي، لم أكن مستعدا للصدمة التالية. غلاف المجلة يتحدث عن سبق صحفي. إحدى الصحفيات تنكرت في هيئة متسولة وبقيت لأسابيع تستجدي الناس، وتسجل شكل تعامل مختلف الفئات مع هذه الشريحة البائسة من النساء.

حملقت بذهول في صورة متسولتي الفاتنة، وشعرت بأنني أغبى رجل في العالم