يصعب عليها أن تصدق ما وصلت إليه... لكن ألسنة الناس لا ترحم.
نقرت زر الدخول إلى الموقع. كتيِّبه الدعائي الوردي مفتوح أمامها، على الصفحة الثانية. يدان مشبوكتان داخل قلب صغير، يحمل عنوان الشركة الإلكتروني وأرقام هواتفها.
بدأت تملأ بيانات التسجيل وقلبها يخفق بشدة.
هذه أول مرة تفعلها.
مكتبها الصغير يشغل جزءًا منزويًا من الصالون الذي يتوسط الشقة. تدير ظهرها للباب، وتستطيع أن ترى، إن انحنت قليلًا، مدخل العمارة. الحديقة الضيقة، السياج الحديدي المحيط بها، والممر الحجري الذي يكنسه الأستاذ عبد النور، جارها القريب.
وجمت وهي تتخيل ردة فعله إن علم بما تستعد للقيام به. سيفضحها وسط السكان.
تتعجب كيف وصل الكتيِّب إليها. الرجل الذي تربطه معرفة وطيدة بصاحب العمارة يتصرف وكأنه يملك المبنى. يعتني بالحديقة، وينظف المدخل والدرج والممشى، ويختار المستأجرين، وينفذ الكثير من العمليات الإدارية والقانونية، التي لا يجد صاحب العمارة وقتًا للقيام بها. يهيمن على المكان، ويأمر وينهى فيه، ولا يسمح لأحد بأن يعارضه.
لا يمكن أن تنسى ذهوله عندما وقّع لها صاحب العمارة عقد الإيجار.
قرابتها البعيدة لزوجة المالك فتحت لها الأبواب التي أوصدها في وجهها، يوم أتت ترى الشقة التي كلمتها عنها قريبتها. كانت قد أخليت حديثًا. أعجبتها، وأعجبها الحي الهادئ، والمدخل المخضر، والبناء المتين الذي لا يضم أكثر من ست شقق موزعة على ثلاثة طوابق. مقر عملها الجديد لا يبعد كثيرًا عن السكن، والمكان، وإن كان هادئًا، يقع في وسط المدينة.
الأستاذ عبد النور، الذي قدّم نفسه على أنه المشرف القانوني على العمارة قال إن السكان لن يتقبلوا وجود امرأة عزباء بينهم. علمت في ما بعد أنه هو الآخر أعزب، بل ومضرب عن الزواج، ولم يمنعه ذلك من إسماعها كلامًا سامًا عن سمعة العازبات المشبوهة، وأخلاقياتهن المشكوك فيها، ومجونهن، واستهتارهن، ورفض كل العائلات المحترمة الاختلاط بهن...
قال لها إنها لن تحصل على الشقة، وكاد يصعق عندما رأى عقد الإيجار!
أعادت قراءة ما كتبته قبل أن تنقر المفتاح لتنتقل إلى الصفحة التالية. ليست متطلبة. لا تبحث عن رجل لافت الوسامة ولا عن صاحب مركز ومال، ولا حتى عن رومانسي بالغ الرقة والحنان. تريد شخصًا... عاديًا، ناضجًا، وواقعيًا، يبحث بجد عن... شراكة عائلية... شراكة... هذه هي الكلمة التي تأسرها.
أنهت التسجيل في الموقع، وتراجعت للوراء بارتياح. فعلت ما عليها. ولتنتظر.
منذ خمسة عشر عامًا وهي لا تفعل شيئًا غير ذلك. تنتظر. كرهها الناس في نفسها، وحياتها، ونصيبها. ليست عجوزًا، ولن تموت إن بقيت دون زواج، ولكن ألسنة الآخرين لا ترحم. تزوجت أختها الأصغر، ثم التي تليها، ثم آخر العنقود، وبقيت هي، وبقي السؤال الكريه يغرز في قلبها كلما طالعتها عيون أهلها المليئة شفقة ورثاء «ماذا؟ ألا جديد؟».
انتهى بها المطاف إلى الهروب. مدينة أخرى، عمل آخر، وحياة أخرى بعيدًا عن الذين تعرفهم.
وها هو الأستاذ عبد النور يذكرها بأنها مازالت غير مرضي عنها وغير مقبولة حتى من مجتمع العمارة الصغير؛ لأنها عزباء.
عزباء... وإذن... مشكوك في أمرها.
متهمة، حتى إثبات آخر.
أن ينتهي بها الأمر إلى استجداء زوج في الإنترنت... هذا ما كانت لتتخيله حتى في الأحلام.
اتصل مسؤولو الموقع بها. طلبوا توضيحات زيادة. أكدوا لها أنهم يعكفون على ملفها. طلبوا مبلغًا ماليًا. وسايرتهم دون مناقشة.
فكرت من جديد وهي تتفقد صندوق بريدها في مدخل العمارة بأنها محظوظة؛ لأنها توصلت بالكتيِّب. لم يكن الأستاذ عبد النور ليسمح لساعي البريد بأن يضع دعاية من ذلك النوع في صناديق بريد السكان. لا بد أنه كان غائبًا يومها.
ليته يغيب وقتًا أطول ويعفيها من منظر سحنته العابسة وحضوره الثقيل.
وصلها إيميل من الموقع يفيد بأن المسؤولين عثروا على شخص يناسبها. حققوا في عشرة أيام ما عجزت على تحقيقه في خمسة عشر عامًا. تملكها ذهول شديد. ولم تعرف إن كان عليها أن تفرح أو تقلق من هذا الخبر.
ترددت قبل أن توافق على مقابلته. علمت أنه يسكن نفس المدينة، ويكبرها ببضعة أعوام، ويشترط مثلها النضوج والواقعية والاستقامة في شريك المستقبل.
«شريك». أعجبتها الكلمة التي استعملها. تعني لها الكثير.
وصلت إلى المكان المتفق عليه في الوقت تمامًا. دخلت. ودخل في إثرها رجل مستعجل. نظرا حولهما بحثًا عن منضدة شاغرة، والتقت عيونهما.
حملقت في الأستاذ عبد النور غير مصدقة، وحملق هو فيها. وانخرطا في نوبة ضحك هستيري مشترك.