حين يشعل المولود الجديد غيرة إخوته

 تشكّل ولادة طفل صغير حدثاً هاماً ومناسبةً سعيدةً لكل عائلة تحظى بهذه الهدية القيّمة من الله عزّ وجل، إلا أنّ للأمر بعض الجوانب الحسّاسة والدقيقة في حال وجود طفل آخر قد يجد صعوبة في تقبّل الضيف الصغير!

هل الغيرة قدر لا مفرّ منه؟ وما هو تفسير علم النفس لهذه الظاهرة؟ وما هي أبرز أعراضها وسلبيّاتها؟وكيف تتمّ تهيئة الطفل لاستقبال المولود الجديد، ومتى؟ وما عساها تكون ردة فعله؟ وهل ثمّة إيجابيات لغيرة الأطفال؟ أسئلة عدّة تجيب عنها الاختصاصية في علم النفس الدكتورة رودنا نجم:

 

 

الغيرة هي شعور إنسانيّ فطريّ ينتاب المرء لحظة إدراكه أنه في صدد خسارة امتياز ما لصالح شخص آخر ينافسه، أو يسعى لمشاركته فيما يعتبره ملكاً خاصاً به.وينطبق هذا الأمر على الطفل الذي يواجه تغييراً يطرأ على حياته المستقرّة الهانئة وسط أبويه والمتمثّل بولادة طفل جديد، تستعدّ العائلة بحماسة لاستقباله وتوفير أقصى ما يمكنها من رعاية واهتمام والسهر على راحته، بعد أن كان في الأمس القريب محور اهتمام والديه ومستحوذاً على جلّ وقتهما وعنايتهما. الضيف الصغير الوافد إلى كنف هذه العائلة، وبقدر ما يجلب السعادة والفرح للأهل بقدر ما يكون مصدر قلق واضطراب للطفل الآخر الذي يسعى للتعبير عن حالة الاستياء التي تعتريه بوسائل شتى.

وإذ تبدو الغيرة من المولود الجديد أمراً حتميّاً لا مفرّ منه، إذ لا شيء في العالم يضاهي عاطفة الأهل بالنسبة للطفل الذي يحرص على الاستئثار بحبهم والاستحواذ على كامل رعايتهم، ما يوفّر له الاستقرار النفسي والطمأنينة والشعور بالأمان. وبالطبع، سيعتقد الابن الأكبر بأنه سيفتقد هذه المشاعر بقدوم طفل آخر يعتمد على والديه (الأم تحديداً) بشكل كليّ، فتسعى هذه الأخيرة مدفوعة بعاطفتها وغريزة الأمومة للعناية بالمولود الصغير ما يفسّره الطفل الآخر بأنه إهمال له وانصراف أمه عنه وتفضيلها الطفل الجديد عليه.

 

ظاهرة صحية؟!


ولكن رغم ما تثيره الغيرة من استياء وغضب في نفس الطفل، إلا أنها تعتبر ظاهرة صحية، شرط ألا تتعدّى حدوداً معيّنة. فالطفل الذي لا يعرف الغيرة هو إمّا وحيداً لا منافس له، يكرّس والداه كل ما يمتلكانه معنوياً ومادياً في تلبية طلباته التي لا تردّ ورغباته التي لا تحجب، أو أنه لا يرى أنّ أحداً بإمكانه أن ينافسه، علماً أن الحالة الثانية مرضية تستدعي العلاج.

أعراض الغيرة


ينزع الطفل الذي يعاني غيرةً من المولود الجديد إلى التخريب وإثارة الفوضى من حوله بغية لفت أنظار والديه إليه، كما يسعى إلى العودة للمرحلة العمرية الأصغر، فنراه يقوم بأمور كان قد أقلع عنها سابقاً كأن يعود إلى استخدام الزجاجة لشرب الحليب بدلاً من الكوب، أو التبوّل في ملابسه بعد أن كان قد تخطّى هذه المرحلة، أو أن يتحدّث بكلمات مبهمة وبأسلوب غير مفهوم رغم أنه كان يبلي بلاءً حسناً ويجيد استخدام المفردات بشكل صحيح، أو أنه يعود إلى الحبو وربما يطلب من والديه حمله مدّعياً عدم قدرته على السير بمفرده!وكلّها تصرّفات تهدف إلى إفهام والديه بأنه ما يزال صغيراً، يحتاج إلى اهتمامهما وعنايتهما تماماً كالمولود الصغير الذي يحظى بكل الرعاية والحنان.

أما فيما يتعلّق بعلاقته مع المولود الجديد، فإنّها قد تتّسم بأمرين: إما أن يكون طفلاً محبّاً ومساعداً وحنوناً وكريماً حتى بدون مقابل فنجده يسهر على راحة الصغير واللعب معه وتسليته وإضحاكه، وإمّا أن يكون طفلاً مشاكساً ومستفزاً ومثيراً للمشكلات، يعمل على إزعاج الصغير كلّما سنحت له الفرصة حيث لا ينفكّ يقوم بتكدير الأجواء سواء باللفظ أو السلوك.

وقد يلجأ الطفل الغيور إلى أبيه تعبيراً عن استيائه من انصراف والدته عنه للاهتمام بغيره وعقاباً لها، فتحدوه رغبة في ملازمة الأب والتعلّق به ومشاركته الأحاديث واللعب، مبتعداً أكثر فأكثر عن الأم المنهمكة بواجباتها تجاه مولودها الجديد. كما قد تتصف علاقته بأصدقائه وأقرانه بالعدائية والعنف حيث نجده يحمل مشاعر سلبية وينتهج سلوكاً سيّئاً تجاههم، كأن يتناولهم بكلمات غير لائقة أو تصرفات عدوانية (تدافع أو ضرب أو تكسير لأغراضهم والعبث بألعابهم). وقد ينكفئ ويتراجع ليصبح انطوائياً، يتجنّب الاختلاط مع أترابه مفضّلاً البقاء وحيداً منزوياً في عالمه الخاص حزيناً لشعوره بأنّ أحداً لا يحبّه أو يفهمه. كيف لا وها هي والدته التي كان يعتقد أنها الأقرب إليه في هذا العالم يراها مشدودة إلى المولود الجديد توليه جلّ وقتها ورعايتها وتحيطه بكل حنان وحب وعاطفة!

وتلفت الدكتورة نجم إلى أنّ ثمّة غيرة مقنّعة بحيث يتعذّر على الوالدين معرفة ما يدور في خلد طفلهما أو ما يعتمره من مشاعر سلبية مبطّنة يحرص على عدم إفشائها، فغالباً ما نراه يلاطف الصغير ويلاعبه ويتودّد إليه حتى تخال أن علاقته به لا تشوبها شائبة البتة، إلا أنه في المقابل قد يتراجع في دراسته أو يعاني صعوبة واضطرابات في النوم أثناء الليل، أو خوفاً وقلقاً، وقد تسوء علاقته بأصدقائه.

قد يبدو للبعض أنّ الغيرة ظاهرة آنية ومرحلة مؤقتة يعيشها الطفل فلا يعلّق الأهل أهميّة كبيرة على أعراضها وهواجسها، إلا أنّ ذلك غير صحيح فهي حالة قد تمتدّ حتى مرحلتي المراهقة وما بعدها.من هنا، ضرورة أن يولي الوالدان اهتماماً بالطفل وما يصدر عنه من تصرفات وسلوكيات قد تكون لها عواقب غير محمودة على صعيد شخصيته ونموّها وتطوّرها وعلاقاته بكل أشكالها، إن لم يحسنا التعامل معها بوعي وصبرٍ تامّين.

دوافع الغيرة


قد يكون أبرزها شعور الطفل بالحرمان والنقص، فبعد أن كان ينعم بعطف والديه وحنانهما، ها هو اليوم مضطر لتقاسم هذه العاطفة مع مولود آخر جاء ليشاركه اللمسة الحنون والابتسامة اللطيفة وكل ما كان يعدّ ملكاً حصرياً له.

كما تعدّ المنافسة في سبيل الاستحواذ على اهتمام الأم دافعاً للغيرة وعاملاً محفزاً، حيث يسعى الطفل للاستئثار بحبها ورعايتها وقضاء أطول وقت ممكن إلى جانبها.

وتلعب التراتبية دوراً في الشعور بالغيرة ودرجة حدّتها، حيث نجد أن الطفل الأوسط هو الأكثر غيرة، فللابن الأكبر مكانته الخاصة، والصغير ما يزال يحظى بالرعاية والاهتمام، أما هو فنجده مضطرباً وفوضوياً يسعى إلى انتزاع حقه من عاطفة والديه وحبهما وعنايتهما.

وجدير بالذكر أن لا تأثير بالغاً لجنس المولود في إثارة الغيرة، علماً بأنه يلاحظ أن البنت الكبيرة قد تلعب دور الأم مع المولود الجديد وذلك نظراً لطبيعتها الحنون، أما الصبي فيكون أكثر عدوانية معه. وقد يخفّف فارق السنّ بين الأطفال من حدّة الشعور بالغيرة لقدرة الطفل على استيعاب ما يجري حوله وتقبّله للأمر، إلا أن ذلك لا يعني أن نغفل دور الأهل وطريقة معاملتهم السليمة للطفل رغم درجة الوعي التي يتمتّع بها.

وتشدّد الدكتورة نجم، في هذا الإطار، على أن استخدام أغراض الطفل من ملابس وألعاب وغيرها من متعلّقات أو إعطاءها للمولود الجديد أمر في غاية الخطورة، ولاسيما إذا ما كانت ذات قيمة معنوية لديه، حيث سيتعزّز شعوره بالمنافسة وخسارة أشيائه الخاصة بعد أن خسر عاطفة أبويه.