
في كل مرة كنتُ أذهب إلى القاهرة، كنتُ أهرب من القاهرة إلى القاهرة، كنتُ أهرب منها، إليها!
كنتُ أهرب من الحاضر إلى الماضي، فالقاهرة بالنسبة لي ليست فنادق الخمس نجوم، وسُيّاح الخمس نجوم، وسيارات الليموزين، وشارع الهرم، وكباريهات شارع الهرم، والشباب الذين تعرفهم من ملابسهم ببدلاتهم المتأنقة، وشعورهم اللامعة، هذه ليست القاهرة.
فالقاهرة التي أعرفها لا يعرفها إلا الراسخون في عشق القاهرة القديمة، بحواريها وسككها الضيقة وناسها الطيبة، كنتُ أهرب من حياة فنادق الـ5 نجوم، والناس الـ5 نجوم، إلى الناس البسطاء الذين لا يجدون راحة الفنادق، ولكنهم يجدون ما هو أهم منها، راحة البال، فعندما كنتُ أنظر من نافذة غرفتي في الدور الـ20 في فندق هيلتون رمسيس، كنتُ أشاهد تحتي الناس الطيبين، يفترشون سجادة الصلاة في الصباح الباكر، حيثُ كنتُ لا أنام، كما لو أن جِنيّا يلبسني كل ليلة، كما في رواية إحسان عبدالقدوس »لا أنام«.
الناس »أهل الله اللي فوق« والذين كنتُ أنا واحدًا منهم، لم يفصلهم عن الناس »أهل الله اللي تحت« سوى شارع كان يفصل هيلتون رمسيس بطوابقه الـ26 عن الناس التي تسكن في الصفيح، فهذه هي القاهرة اليوم، وهذا هو الانفتاح، ناس »فوق أوي«، وناس »تحت أوي«، لذلك كنتُ أهرب وأواصل عملية الهروب الكبير، كل ليلة أهرب من صخب الفنادق وصخب الفنانين وحفلاتهم الصاخبة، إلى هدوء الحسين وخان الخليلي، كنتُ أتسلل كل ليلة كما لو أن عندي موعدًا مع مَنْ أُحب، على طريقة شادية وعماد حمدي في فيلم موعد مع الغرام، ولكن غرامي كان من نوع آخر.
فأنا مغرم بسماع »العوّاد« كل ليلة في مقهى نجيب محفوظ، حيثُ كان ينتظرني كل ليلة عبدالحليم حافظ بحضوره الطاغي الجميل، وإحساسه الذي يعيدني إلى الزمن الجميل، وكلماته التي ليست كالكلمات، كانت هي في الركن البعيد الهادئ تردد نفس الكلمات وتحمل نفس الإحساس اللذيذ المنعش الذي كنت أحمله.. كانت تشبهني في إحساسها بعبدالحليم أو كنتُ أشبهها، كلنا من نفس فصيلة الدم وفصيلة الحلم، كُنَّا نبحث عن القاهرة القديمة كل ليلة، نبحث عن إحساس قديم غير متوفِّر في الفنادق، لذلك كُنَّا نعود كل ليلة إلى نفس المقهى ونفس الأغاني التي تطلب إعادتها كل مرة، نبحث عن القاهرة القديمة وعن أهلي اللي تحت، وعن أيامنا الحلوة، كانت من واقع و»شوية« حلم، وكنتُ من خلطة أحلام، ولكننا كُنَّا نطارد خيط دخان، كانت تحب القاهرة »اللي تحت«، ولكنها ليست القاهرة التي نحلم بها.
عدت إلى غرفتي في الطابق الـ20، ونظرت إلى القاهرة من فوق، وتذكرت كلمات عاطف في »دماء على الأسفلت«، وهو ينظر إلى القاهرة من فوق ويقول: «القاهرة حلوة من فوق»!!
شعلانيات
< الماضي جميل لأنه ذهب، ولو عاد لمّا عاد جميلًا..!!
< إذا كُنَّا نتحسر على الماضي، فليس لأن الماضي جميل إلى هذا الحد، ولكن لأن الحاضر سيئ إلى هذا الحد الذي يجعلنا نترحّم على الماضي!!
< إذا كانت المرأة جميلة جدًا، أو غير جميلة، امدح ذكاءها!





