أبدأ باعتذار.. مع أن الناس هذه الأيام لا تعتذر بعد أن «استمرأت» عدم الاعتذار، يشجعها في ذلك أن بعض البلدان تعلم أبناءها الاعتذار في المدارس، لكنها لاتعتذر لبلد آخر مثلاً تكون أخطأت في حقه! ولكنني أفعل وأعتذر للقارئ بسبب مقال سابق؛ حينما قلت إن الطفل هذه الأيام عندما تسأله ماذا يريد أن يصير عندما يكبر، فهو يقول أي شيء إلا أن يصير كاتبًا أو طبيبًا أو مهندسًا، ويفضّل أن يكون لاعبًا على أن يكون بروفيسورًا، وهي تفضل أن تكون راقصة وفنانة على أن تكون عالمة ذرة!!
لأنني وجدت أن هناك 3 ملايين فرنسي كانوا ومازالوا يحلمون بأن يصبحوا كتابًا، وأن الأحلام الجميلة لمهنة الكتابة تراودهم باعتبارها حلم الصبا! لذلك وجب الاعتذار مرتين.. مرة للقارئ، ومرة للشعب الفرنسي الذي يعتبر مهنة الكتابة حلمًا له، وأنه يستطيع أن يحقق بالأدب ما لا يحققه بقلة الأدب، مثلما يفعل الكثير من الشعوب هذه الأيام على طريقة النكتة الشهيرة «هذا ما فعلته بقلة الأدب.. وخلي الأدب ينفعك». فالأدب مازال ينفع الفرنسيين بعد أن انتشرت ثقافة «الثقافة» بين الفرنسيين أخيرًا؛ لمواجهة موجة تسطيح المجتمع، فالراقصون والراقصات والفنانون والفنانات ليسوا هم قدوة المجتمع ونجومه، والكتاب هم البديل الأفضل لأن يكونوا نجومًا وقدوة للمجتمع؛ لذلك شنّت وزارة الثقافة الفرنسية حملة واسعة تقول «لا يوجد ما يمنع مواطنًا عاديًا من أن يصبح كاتبًا مرموقًا في فرنسا». لذلك بدأت أحلام الحالمين تنتعش في أن يصبحوا كتابًا. وكان من نتائج هذه الحملة أن فيضانًا من الكتب التي تروي أسرار حياة أناس عاديين؛ يتصور كل واحد منهم أن تجربته تتيح له أن يحصل على لقب كاتب تراودهم الأحلام الكبيرة بأن يوقعوا كتبهم في معرض الكتاب في أرقى صالات العرض في بورت فيرساي، مثلما يفعل كبار الكتاب سنويًّا؛ حيث يجلس نحو ثلاثة آلاف كاتب؛ ليوقعوا «أوتوجرافاتهم» للمعجبين والمعجبات، باعتبارهم نجوم مجتمع لا يقلون أهمية ونجومية عن زين الدين زيدان اللاعب الشهير أو زميله هنري أو تريزيغيه، وهو الأمر الذي شجع رئيس الوزراء دوفيلبان على أن يحلم هو الآخر بنجومية الكتاب؛ ما جعله يصدر ثلاثة كتب دفعة واحدة.. منها كتاب عن الشعر والأدب، وآخر عن القصة، وثالث عن تجربته السياسية برؤية أدبية.
ومع أنني أعتذر للفكرة وللقارئ، إلا أن هذا الاعتذار لا ينسحب بالضرورة إلى ما هو أكثر من ذلك، فنحن لم نصل إلى مرحلة نشر ثقافة «الثقافة»؛ لأننا مشغولون بنشر ثقافات آخرها ثقافة الفضائيات، والتي لو سألت واحدًا ماذا استفاد منها، بعد فورة الفضائيات، «يتوقف» قليلاً. بدليل أن –حتى- أفكاره بدأت «تتعرى»، فلم نعد نسمع أن واحدًا يحلم بأن يصبح كاتبًا، أو أن كاتبًا شوهد وهو «يُوقع» الأوتوجرافات لمعجبيه، فأصحاب الأوتوجرافات هم الفنانون والفنانات والراقصون والراقصات، و«الأحياء منهم والأموات»!! فلا أحد يسعده كثيرًا أن يحصل على توقيع كاتب بقدر ما يسعده كثيرًا أن يلتقط صورة تذكارية! ولا ألومهم كثيرًا في ذلك.. فشهرة ونجومية كل الكتاب مجتمعين لا تعادل شهرة فنانة، وأجرة كل الكتاب طوال مسيرتهم لا تعادل أجرة راقصة.
أعتذر مرة أخرى!!
شعلانيات:
خياران في الحياة: أن تقبل الظروف كما هي، أو أن تقبل مسؤولية تغيير الظروف!
مشكلة بعض الناس هذه الأيام أنها تعرف كل الحلول لمشاكل غيرها ولا تعرف حلاً لمشاكلها!!
أن تقرأ كاتبًا لا يعني مجرد أن تأخذ فكرة عما يقوله، بل أن ترحل معه وتسافر برفقته!





