عصر الفرجة

نجاة غفران

 

منذ مدة وهو يلح عليّ لآخذ موعدًا مع الطبيب المختص الذي نصحني به، أخي الذي يعمل في صيدلية تابعة لأكبر مستشفى حكومي في المدينة، يعرف كل دكاترة البلد، وقد نصحني منذ بدأت أشكو من أوجاع أذني، بضرورة الخضوع لفحوص طبية.. قد يكون محقًا، ولكنني لا أجد الوقت اللازم للقيام بذلك، عملي في شركة اتصالات أجنبية يستنزف كل ساعات يومي، هناك دائمًا طلبيات طارئة ومستجدات يجب نقلها إلى المتعاونين معنا، ومهمات تستلزم شغلاً إضافيًا وأداء منسقًا مع الشركة الأم في الخارج، ثلاثة أرباع عمري، منذ تخرجي، قضيتها في الاعتكاف على تطبيقات التواصل الاجتماعي والتنقل بين المكاتب والسفر داخل البلاد وخارجها، صحيح، تعويضاتي سخية، ولكنني لا أجد الوقت لصرفها ولا للاستمتاع بالترف الذي توفره لي، لازلت أعيش مع أسرتي، لم أتزوج ولم أرتبط بأحد، والداي سلما أمرهما لله وكفا عن عرض العرسان عليّ، وجدتي، الوحيدة التي لم تسأم بعد من لعن الأجهزة الحديثة والإلحاح عليّ لأبحث عن عمل أرحم وأقل إنهاكًا، تقفز عند أدنى شكوى لتصيح فيّ: "أنت من يريد ذلك.. ستنطفئ عيناك يومًا أمام شاشاتك المنحوسة تلك.. تضعين نظارات وأنت لم تبلغي الأربعين بعد.. ستصبحين عجوزًا قبل الأوان، ولن يرضى بك أحد.. عنيدة وغبية..".
أوجاع أذني تفاقمت، والمسكنات التي يقدمها لي أخي لم تعد تنفع، واليوم، وأنا أراجع إيميلات الإدارة، فوجئت بالكلمات تتراقص أمامي وتلفها غشاوة ضبابية، نزعت نظارتي وحككت عينيّ وعدت أنظر بصعوبة إلى الشاشة، لم يتحسن الوضع، لم أكن على ما يرام، بعد لحظات طويلة من الذهول، قمت لأفاجأ بأمر أخطر، أذناي تطنان وتوازني يختل.
إن بقيت هكذا سأقع أرضًا، وقد يغمى علي أو أتقيأ، أو يحصل لي ما لا تحمد عقباه.
تناولت سترتي وحقيبتي وغادرت المكتب، وتوجهت رأسًا نحو غرفة رئيسي المباشر لأستأذنه في الخروج؛ لأنني لم أكن على ما يرام.
رد دون أن يرفع رأسه عن جهاز حاسوبه: " تغادرين؟ مستحيل.. هل رأيت برنامج هذا الصباح؟ لدينا ثلاثة لقاءات مع مسئول التوزيع التقني ومبعوث شركة التأمين وموفد الجمارك.. ولدينا تقارير منصة التواصل الرقمي.. يجب مناقشة ما جاء فيها مع رئيس الخلية الإعلامية.. و..".
لم أمهله حتى يتمم كلامه، أفرغت دفعة أولى من محتوى أمعائي على عتبة مكتبه، وصاح منفعلاً يأمرني بالانصراف وينادي بحنق على عامل التنظيف.
جدتي محقة.
أنا أعمل كالبهيمة.. لن يلتفت إليّ أحد إذا أصبت بوعكة.
نظفت قدر ما استطعت حالي، وخرجت وجدران المبنى الفسيح تميد بي، أذناي تطنان وجسمي يترنح من الدوار، وقفت لحظات بانتظار سيارة أجرة، وشعرت بأمعائي تتقلب من جديد، وفضلت أن أمشي وأحاول استنشاق الهواء البارد وأنا أتصفح ملف أرقام الهواتف في آيفوني؛ بحثًا عن رقم أخي الذي لم أعد أتذكره جيدًا، شاشة الهاتف تتراقص أمامي، وقدماي تهددان بخذلاني..
وتنفذان تهديدهما..
وقعت أرضًا وأفرغت ما تبقى في جوفي على الهاتف، الذي بقيت متشبثة به.. رفعت رأسي محاولة استعادة أنفاسي، وفوجئت بامرأة تجري نحوي وتقترب بسرعة وتنحني عليّ لتصورني بهاتفها المحمول من زوايا مختلفة.. غير مكترثة بحالتي ولا بالمارة الذين اقترب بعضهم منا واستلوا هواتفهم وأخذوا يمطرونني أنا والمرأة المنحنية علي بالصور..
كان المنظر مرعبًا فعلاً.
أنا.. بآيفوني الملطخ بما أفرغه جوفي، وشعري الأشعث المنسدل بفوضى حول وجهي المتصبب عرقًا، وعينيّ الذاهلتين، ولوني الشاحب.. والمرأة التي تحاصرني بحركاتها المتطفلة عليّ، وهاتفها المُشهر نحوي.. والناس حولنا بهواتفهم الذكية التي تلتقط بفضول تفاصيل المشهد البئيس؛ لتقدمها وجبة طريفة لمواقع التواصل الاجتماعي، التي أمضيت كل عمري المهني في صيانتها والسهر على حسن اشتغالها..
جدتي محقة.
لا خير في شاشات تُفني النظر، وتسرق العمر، وتُلهي المرء عن الأمور الأساسية في الحياة.
لا خير في تكنولوجيا تحوّل كل شيء إلى فُرجة.