تأجيل ما لا يتأجل

يوسف بخيت


من نافلة القول أن التأجيل أو التسويف أحد أسوأ الصفات في الإنسان، فما إن يعزم القيام بإنجاز مهمة ما، إذا به يقرر تأجيل التنفيذ، يحدث هذا عدة مرات وبدون سبب واضح، وكأنه صار سلوكاً متأصلاً وملازماً للمرء، حتى إنه ليجهل لماذا قرر التأجيل، مع أنه رسم خطوات التنفيذ مسبقاً، ولم يتبق له إلا أولى الخطوات العملية، يستوي في ذلك الأفراد والشركات، وغيرها من التجمعات المهنية والعملية، فترى على سبيل المثال رئيس أحد الأقسام في شركة ما يعقد اجتماعات بعد اجتماعات مع أعضاء وحدته، يضعون خطة عمل لفكرة مقترحة، ثم يبدؤون في كتابة خطوات التنفيذ ورصد الميزانية اللازمة، بل إنهم يحددون موعداً لبداية العمل، لكن فكرة التأجيل تغتال كل ما تم التخطيط له.


يأتي التأجيل في أعلى قائمة موانع التقدم للأمام على مستوى الأفراد والمجتمعات، ولا شك أن التأجيل مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتردد والخوف في كثير من الحالات، وكما قيل: التردد مقبرة الفُرص، وكم من فكرة ماتت في مهدها، لا لشيء إلا لأن صاحبها اختار تأجيلها حتى فات أوانها، وزالت الظروف المواتية لاقتناصها وتحويلها إلى واقع، وما أجمل ما قاله «المتنبي» في هذا المعنى:


إذا كنتَ ذا رأي فكن ذا عزيمة
فإنّ فسادَ الرأي أنْ تترددا


يشخّص الشاعر في هذا البيت الفريد لب المشكلة فيما يتعلق بفساد الرأي والأفكار، وهو باختصار شعور التردد وضعف العزيمة، ويربط بين الرأي والعزيمة ربطاً وثيقاً، فلا يغْني أحدهما عن الآخر أبداً.
ربما كان اختيار البعض للتأجيل كأسلوب تخطيطي للتريث قليلاً، ومراجعة الأفكار والمواقف والاطمئنان إلى صوابها، وهنا نستطيع وصف هذا التأجيل بالإيجابي، نظراً لفوائده الواضحة في تصويب الخطأ بفكرة ما قبل تنفيذها، وتطويرها إلى الأفضل والأجمل، مع ضرورة أن لا يستغرق هذا التأجيل، وإن كان إيجابياً، مدة من الزمن تؤخر تنفيذ المشاريع على مستوى الأفراد والمؤسسات الحكومية والخاصة، وحتى لا يترتب على ذلك في المستقبل هدر للوقت والجهد، وجدير بمن يختارون التأجيل هنا أن يضعوا جدولاً زمنياً واضحاً تنتهي خلاله الدراسات والمراجعات من قبل المختصين، ثم يتم التنفيذ بعد ذلك مباشرة، ولا يؤول المشروع أو الفكرة إلى الأضابير المغلقة والأدراج المظلمة.


من أسوأ أمثلة التأجيل في حياتنا تأجيل ما لا يحتمل التأجيل من الواجبات الاجتماعية، بل يدخل في دائرة الأمور المهمة، كالمبادرة بمواساة محتاج بالمال وبذل النصيحة لصديق أو قريب، والإسراع في مشاركة الأقارب والأصدقاء مناسبات الزواج، وكذلك الحضور في حالات العزاء دعماً وتخفيفاً عن ذوي الميت، ويخطئ الناس جهلاً أو عمداً في حق الآخرين، ومع هذا يتعمدون تأجيل الاعتذار، أو ينكرون ما ارتكبوا من أخطاء، مع أن رسالة اعتذار قصيرة وصادقة بإمكانها أن تمحو أثر القطيعة، وتعيد للطرف الآخر احترامه واعتباره، وكم من دموع سُكبت على قبور الموتى أسفاً واعتذاراً، والسؤال المؤلم هنا: ما فائدة الاعتذار بقُبلة ندم على جبينِ إنسان ميّت؟


يا رفيق الحرف، أخشى ما أخشاه أن نكتشف متأخرين جداً كثرة ما فاتنا من أمور جميلة، كان بإمكانها أن تصبح واقعاً سعيداً نعيشه كل يوم، لكننا بكسلنا أولاً وثانياً وثالثاً أضعناها، وأضعنا معها وقتاً ثميناً من عمرنا، وحتى لا نستيقظ ذات نهار على مثل هذا الكابوس المخيف؛ بات لزاماً أن نبدأ التعامل مع التأجيل بجدية وصرامة، ولا نسمح لأنفسنا بالوقوع في فخه، لا يحتاج الأمر أكثر من همة عالية وتخطيط سليم ومن الله تعالى التوفيق أولاً وآخراً.