mena-gmtdmp

بين «قابين» وأدنى

سلمى الجابري
في مواسم الفراق الموجعة تتمطى مشاعرنا الغيبيّة بكل أسى ووهن، وكيف لها أن تكونَ كذلك ونحنُ نُصافحهم لآخرِ مرّة، بجزيل الاشتياق والذكريات الغابرة؟ كيف لها أن تتقبل تلك القطيعة العاطفية بجذل؟ للأسف لأنهم بكل حبورٍ عانقونا ذات حُب، وبكلِ فجيعة ها هم يعانقوننا بنحيب، يا لسخافة ساعات اللقاء المحدودة بعمرٍ قصير! ويا لضآلة الأمنيات المرهونة عليهم! فبين قابين وأدنى نعيش معهم، ثم لابدّ أن نتعايش مع رحيلهم. نحنُ في الحياة دائماً على مهبِ سفرٍ أو فراق، وكلاهما مؤشر لنهاية ما، ونبوءة لبداية أخرى، وكم ستكون عمر تلك البدايات؟ هل هي بمقدار تلك النهاية، أم أطول منها عمراً؟ في كل الأحوال لابدّ أن نربي عواطفنا على الفراق والكثير من النسيان العاجل، لا يجب علينا الوقوف طويلاً عند مطارات المغادرة نتأملهم، نبكيهم، ثم نرثيهم، فكم من مسافرٍ رحل، وكم من عائدٍ عاد! ونحن تماماً نقف في المنتصف، شاهدي عيان على تلك الآلية الغريبة بين رحيلٍ وعودة. أما آن لنا الحراك، والسير عكس تلك الازدواجية؟! لذلك كان الزمن العاطفيّ من أكثر الأزمنة التي نُدهس تحتها ونُسحق باسم الحُب، باسم الوفاء، وباسم الأبدية، المتوقفة عليهم، ولذلك فقط ذهبت كل اجتهاداتنا في محاولة نسيانهم سدى، لم يتبق لنا سوى الصمت المطبق، المشاعرِ المحمومة، والذكريات الباكية، لم يكن الحل في الانشطار العشقي عنهم فحسب، بل بنزعهم من دفاترنا، رسائلنا، ليالينا، وذاكرتنا، لذلك كانت وستبقى هذه المهمة الانتحارية والفدائية مستحيلة. نحنُ أضعف بكثير من تلك الثورة العظيمة المقامة ضدهم، وأنا على يقين بأننا سنتجاوزهم ذات يوم بغرابة ونسيان، فقط علينا قبلها أن نؤمن برحيلهم، وأن نؤمن بأن من غاب لن يعود، لذلك وقوفنا عند عتبة الأيام القديمة يعتبر خطيئة، وها نحنُ بكل تحدٍ سنعلن عليهم الهجرة بغيرِ عودة، فقط علينا أن نتعلم ثقافة الغياب كيف تكون؛ لنشرع في تطبيقها، لذلك كان مكوثنا تحت اللاوقت ذا فائدة علينا