التطريز اليدوي والتصميم اليدوي للمجوهرات.. هذه الفنون البطيئة في زمن متحول، فهي ليست مجرد تقنية في عالم الموضة بل احتفاء بالماضي وبالإبداع الإنساني، في زمن يسابق نفسه ويخضع للتشفير والترقيم، ويقتل روعة الحكايا التي تنسجها أيادٍ صغيرة على مساحة بيضاء من قماش أو على قطعة من معدن، تفتح تساؤلات كثيرة ومخاوف مرتبطة باندثار هذه الحرف المتوارثة عبر الأجيال، وسنحاول الإجابة عنها مع الدكتورة ياسمين دبوس التي تابعت تخصصها في هذا المجال في نيويورك، بحثاً عن الهوية الانسانية، وسنكتشف بمناسبة يوم التراث العالمي، مع السيدة نور تنير طرق الاستفادة من هذه الحرف اليدوية وسبل تحويلها إلى مهنة وعلامة تجارية مربحة.

التطريز ورواية القصة بأسلوب ياسمين دبوس
إذا كان التطريز حرفة قيمة مرتبطة بالتراث، يجب على كل بلد الحفاظ عليها من الاندثار ويجب على الجهات الرسمية دعمها، لذا قامت مبادرات فردية في بلدان تعاني من أزمات كلبنان للحفاظ على هذه الحرفة، وكيف لا فلبنان يعد بحسب الخبراء في هذا الفن، من أغنى الدول بأنواع الغرزات في الشرق الأوسط. التقينا بالدكتورة ياسمين دبوس وهي مجازة في الإعلام ودرست فنون التصميم على القماش والتطريز عليه في نيويورك، قبل عودتها إلى لبنان لتؤسس مع شريكة لها معهد "مجال للتصميم" Majal Design School الذي يقدم دورات تدريبية في التطريز والتصميم على القماش للهواة ولمصممي الأزياء، أو الحرفيين الراغبين في تعلم هذه الحرفة، والهدف الرئيسي تمكين النساء عبر تلقينهن حرفة يجنين منها مالاً وهن في المنزل.
التطريز فن يجسد الهوية والمعتقد فكل قطبة أو "غرزة" مرتبطة ببلد ما، وكل شكل نرسمه بالإبرة يرمز الى حضارة ما. وتوضح لنا ياسمين أن هناك أنواع غرزات مرتبطة بكل بلد وهناك ألوان وطريقة تطريز تجعلنا نحن الخبراء ندرك منشأ القطعة وتاريخها ورمزيتها. فقطبة Cross Stich نشأت في فلسطين وهي متداولة في كل من لبنان وسوريا والأردن. أما قطبة ماراش Marach فهي أرمنية الأصل ولذا ترين أن الأرمنيين الذين هربوا من المجازر في بلادهم إلى لبنان، لم يأخذوا معهم إلا القماش المنفذ بغرزة الماراش، ليتمكنوا من الحفاظ على تراثهم. وهناك غرزة Kamtha المتداولة في الهند والتي ترتبط بألوانها بحسب القبائل. وهناك الغرزات الفرنسية المنفذة من الدانتيل والقطب البريطانية التي نستعين بها على الأزياء والأثاث.

- كيف خطر لك الانتقال من التعليم في الجامعة الأمريكية في بيروت إلى امتهان التطريز وتعليمه؟
في العام 2012 أخذت دروساً في الحياكة على الماكينات وأخذت حصة في التطريز وشغفت به. كنت هاوية للقماش القديم أجمعه من أسفاري في النيبال وفيتنام، وبدأت بتصميم أكسسوارات وشاركت في معرض، فبيعت كل مجموعاتي تقريباً لذا قررت أن أنتقل إلى تصميم المجوهرات ليس من باب ملء الفراغ بل أن أتخذها مهنة جدية. ذهبت إلى نيويورك ودرست تصميم القماش والمجوهرات. وعندما عدت إلى لبنان وجدت أننا نقتقر إلى دراسة متخصصة في هذا المجال، فلدينا الكثير من المشاغل التي تعلم الحرفيين بطريقة متوارثة ولدينا مصممون عالميون يتعاملون مع طرازين في لبنان والخارج بسبب تناقص أعداد العاملين في هذا المجال. فوجئت بالخبرة التي يتمتع بها الحرفيون في لبنان فجذورنا مرتبطة بالحياكة على آلة النول منذ القديم، لذا قررت إنشاء معهد يعلم هذه الحِرَف ويعطي ورشاً في تحويل هذه الحرف الى رأسمال وعمل مجني للأرباح The Business Side Of Creativity.
- ومن أين استقيت معلوماتك؟
أجريت دراسة عن تاريخ الأقمشة والتطريز في لبنان، وعاد بي التاريخ إلى أصولنا الفينيقية والنسيج الأرجواني الذي ابتكرناه ثم إلى التأثيرات التي تركها كل من العصر العثماني وزمن المماليك على أسلوب حياتا وبالتالي على لباسنا وزخرفاته. وقد عرف لبنان منذ تلك الفترة بطريقة مميزة في التطريز تسمى "الطرق" أي فن التطريز بخيطان الفضة بالإبرة وهي تقنية رائعة كانت تزخرف ثياب الأمراء المعنيين نفتقر إلى الخبراء فيها، لذا بدا لي الوقت مناسباً لإحياء المهنية التي كنا نبرع بها ولدينا الكثير من الغرزات الشهيرة في التطريز التي تعلمناها وأتقناها مع الوقت.

- ومن هم طلابك اليوم؟
منذ خمس سنوات ونصف السنة افتتحنا المعهد ويقصدنا للدراسة ليس فقط من يريد امتهانها بل هناك محامون ونساء عاملات يجدن في التطريز بالإبرة متنفساً للتعبير عن حاجتهن للراحة عبر عمل دقيق يريحهن من التفكير بأمور الحياة، وسرعان ما يتخذها البعض عملاً جانبياً لجني المزيد من الأرباح. غالبية التلاميذ هم من النساء فقلة من الرجال يتعلمون التطريز باستثناء الفنانين البصريين والمصممين لأنها تتوج عملهم.
- وهل حققت هدفك من التعليم؟
هدفنا تحقيق وظائف مستدامة وتعليم التصميم والإبداع بأسعار مقبولة، وبأسلوب سهل بغض النظر عن العمر والمستوى الثقافي للطالب. لقد أردت كسر الصورة النمطية التي تحدد التطريز في الشغل بالإبرة على مفارش السرير التي كانت تقوم بها الجدات، فالتطريز مهنة أوسع وفن شامل يطال الديكور والتحف المنزلية واللوحات ولا يقل شأناً عن الرسم التجريدي والزيتي وعن النحت.
- وهل لديك تعاون مع مصممين لتدريب طلابك؟
أجل فلدينا العديد من الشركاء في مجال تصميم الأزياء والأقمشة، ونحن نهتم بتدريب الطلاب على اختيار القماش بناء على التصميم أو القماش المراد استخدامه. فالهدف ليس مجرد تعليم التطريز بل سبل الاستفادة منه في أمور حياتية وكيفية إدخاله ضمن فنون أخرى لابتكار مجالات جديدة ووظائف لتوسيع مجالات العمل لدى الطلاب. ورش التدريب تستمر بشكل عام ستة أسابيع تبدأ بتعليم الغرزات ثم يتم العمل على مشاريع فنية مستقلة بناء على اهتمامات الطلاب، لتوسيع آفاقهم.
- وما القيمة المضافة التي يضفيها التطريز في مجال الموضة وتصميم الأزياء؟
للتطريز له عدة منافع يمكنني تلخيصها على الشكل التالي:
- التطريز يرتقي بالزي إلى مصاف آخر، فعندما نرسم نحن لا نضيف مجرد ألوان بل لمسة حسية وبصرية يشترك فيها الحواس الخمس. فالتطريز بالإبرة هو قطبة نافرة تضيف لمسة ثلاثية الأبعاد على القطعة وتخلق حيوية وترفع قيمة الزي وتجذب الأنظار.
- التطريز يبرز أهمية الـ"ستوري تلنغ" أي رواية القصة لأن رسومه تروي قصصاً فعندما نطرز أرزة لبنان فنحن نروي الشموخ وعندما نمزجها بالأحمر فنحن نروي الألم والحنين، ولذلك تحرص العديد من العرائس اليوم على تطريز رسوم على فستان زفافها تروي قصة تعارف الزوجين أو يمكن أن تنفذ رسوماً للأطفال، تماماً كما حصل مع النجمة إنجلينا جولي التي ارتدت فستان زفافها مزداناً برسوم أطفالها، فلو كان الفستان منفذاً مع تطريز، هل يمكننا تخيل النتيجة؟ فهو سيشبه تحفة فنية من دون شك. باختصار، فالتطريز يكشف هوية المرء وتطلعاته.
- التطريز مصدر للطمأنينة والراحة النفسية لأنه يضفي راحةً وثباتاً وهو يريح العامل والناظر إليه في وقت واحد. هو علاج نفسي يساعد على الاسترخاء وتناسي الهموم.
تابعي المزيد كيف صنعت المصممة دانة أبو أحمد من تجارب الحياة علامتها التجارية؟
نور تنير: هكذا نؤسس ماركة خاصة بنا من حرفة يدوية

كما كان لنا لقاء مع السيدة نور تنير وهي مهندسة داخلية ومديرة برامج في "مجال ديزاين سكول" في بيروت وتخصصت في الفنون الإسلامية، وهي تدرّس وتتولى الشق الإداري، وتقول في هذا المجال: "لقد أسسنا المدرسة في العام 20218 وأدركنا حاجة العالم العربي ولبنان خاصة إلى تخصص في الأعمال الحرفية، فمجالات التصميم غنية وتتضمن العديد من الفرص للتخصص في حرفة معينة ليكتسب مهارة وحرفة قد تؤمن له مدخولاً إضافياً.
- وما المواد التي تدرسينها؟
أعلم تطوير الأعمال وطرق تأسيس مهنة مستدامة وناجحة وأدرس نظريات الألوان التي تفيد المصممين العاملين في هذا المجال، والستايلست في عملية تركيب ومزج وتنسيق الألوان وهي أمور تحفز على الإبداع وتريح الإعصاب. ويقصدنا الكثير من مصممي الأزياء والمجوهرات لتقديم دورات تدريبية لطاقم العاملين لديهم.
- وكيف ترين إقبال الناس على هذه الأمور الحرفية؟
بعد كورونا شهدنا عودة إلى العالم الحرفي بشكل لا يصدق وبالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية عادت الناس إلى التراث للاستفادة من مقتنياتها وتدويرها وبهدف خوض مهنة تؤمن مدخولاً إضافياً وتكون حرفة تشبهه وتعبر عن شخصيته. ولدينا متجر خاص بأعمال طلابنا ومعلمينا يعرضون منتجاتهم ويستفيدون من مبيعاتها، الأمر الذي يحفزهم على تطوير مهاراتهم وصقلها بهدف تحقيق المزيد من التقدم.
- كم تستغرق مدة الدورة؟
دوراتنا عبارة عن 6 أسابيع بمعدل مرة أسبوعياً، وتلبي تطلعات الناس العاملين. يمضي الطالب 18 ساعة في دورة واحدة وهي كافية ليتعلم عن حرفة معينة لم يكن يعلم تقنياتها من قبل. لبنان يحتاج إلى التخصص في كل مجال من عالم التصميم، فلدينا طاقات إبداعية هائلة، ونحن ننميها من خلال مدرستنا عن طريق تعليم حرف تراثية تعيد تمسكنا بأرضنا، وتحيي هذه المهن الرائعة المهددة بالزوال، ولذا يجب العمل على تقديمها بطرق عصرية لاستقطاب الجيل الجديد الذي يملّ بسرعة عن طريق إثارة اهتمامه بمهن تميزه عن غيره وتدر له المال.

- ما هي أعمار الطلاب وما جنسياتهم؟
يأتينا طلاب من سن الـ13 إلى 80 عاماً، وهم من مختلف الطبقات والجنسيات، ويتعلمون الكثير عن تصميم القماش والتطريز وكيفية تحويل هذه الهوايات إلى مهنة ثابتة وهي مهن ليست حكراً على النساء، فلقد بدأ هذا القطاع يشهد إقبالاً من الرجال وخاصة تصميم المجوهرات الحرفية بالطرق اليدوية.
تابعي المزيد من أسرار مشاغل التطريز للدور العالمية.. لن تصدقي الحكاية!