مَن منا لم يمتلك يوماً قطعةً من الجينز؟ سواء كانت سروالاً، أو سترةً، أو حتى حقيبةً، بات قماشُ الدنيم جزءاً لا يتجزَّأ من حياتنا اليوميَّة. وعلى الرغمِ من ارتباطه في بداياته بالعملِ الجاد، والوظائفِ الشاقَّةِ إلا أن هذا النسيجَ، استطاعَ أن يتسلَّلَ إلى كافةِ طبقاتِ المجتمع من عمالِ مناجمَ في الغربِ الأمريكي إلى عارضاتِ أزياءٍ على منصَّاتِ الموضةِ الراقيةِ في باريس.
قماش الدنيم
قماشُ الدنيم، هو نوعٌ من النسيجِ القطني الثقيل، يتميَّز بطريقةِ نسجه الخاصَّةِ التي تُعرَفُ بـ «النسجِ المائل» Warp-faced twill. في هذا النمط، تُغزَلُ خيوطُ السدى الطوليَّةُ بكثافةٍ أكبر من خيوطِ اللحمة الأفقية، ما يمنحُ القماشَ مظهراً مائلاً، وملمساً فريداً من نوعه. يشتهرُ هذا القماشُ بلونه الأزرقِ النيلي، لكنَّ هذا اللونَ، لم يكن دائماً خياراً جمالياً، بل كان في الأصلِ نتيجةً للمواردِ المتوفِّرةِ في الأسواقِ الأوروبيَّة. واليوم، أصبح الدنيم أكثر من مجرَّدِ قماشٍ. إنه رمزٌ ثقافي عالمي، يُعبِّر عن الحريَّةِ، والتمرُّدِ، والهويَّةِ الشخصيَّة.

الأصول

يعودُ أصلُ قماشِ الدنيم إلى مدينةِ نيم الفرنسيَّةِ حيث كان يُنتَجُ نسيجٌ، يُعرَفُ باسمِ سيرج دو نيم Serge de Nîmes، وهو نسيجٌ قطني قوي ومتينٌ. هذا القماشُ، انتقلَ لاحقاً إلى مدينةِ جنوى الإيطاليَّةِ التي كانت مركزاً تجارياً نشطاً في أوروبا، وهناك أصبح يُعرَفُ باسمِ «جينز» نسبةً إلى الاسمِ الفرنسي للمدينة Genes.
ومع حلولِ منتصفِ القرنِ الـ 19، وخلال حمَّى البحثِ عن الذهبِ في أمريكا، ظهرت الحاجةُ إلى ملابسَ، تتحمَّلُ العملَ الشاقَّ، والظروفَ القاسيةَ التي كان يُواجهها عمالُ المناجم. في هذا الوقتِ، برزَ اسمُ ليفي شتراوس Levi Strauss، وهو رجلُ أعمالٍ، استغلَّ متانةَ قماشِ الدنيم، وبدأ بإنتاجِ سراويلَ عمليَّةٍ مزوَّدةٍ بمساميرَ نحاسيَّةٍ في نقاطِ التوتر، لتصبحَ أكثر تحمُّلاً. وهكذا، وُلِدَت أسطورةُ ليفايز Levi’s التي ما زالت قائمةً حتى اليوم.
ومنذ تلك اللحظةِ، لم يتوقَّف قماشُ الدنيم عن التطوُّر، فبعد أن ارتبطَ في بداياته بالوظائفِ اليدويَّةِ الشاقَّة، تحوَّلَ تدريجياً إلى عنصرٍ أساسٍ في عالمِ الموضة. بات يُستَخدمُ في صناعةِ السراويلِ، والقمصانِ، والستراتِ، والإكسسوارات، وحتى في عناصرِ الديكورِ المنزلي. وقد توسَّعت خياراتُ إنتاجِ هذا القماشِ بشكلٍ كبيرٍ، لتظهرَ أنواعٌ عدة منه، تتراوحُ بين الخفيفِ الناعم، والثقيلِ الخشن، كما تنوَّعت الألوانُ، والتقنيَّاتُ المعتمدةُ في معالجته، واستُخدِمَت أصباغٌ نباتيَّةٌ، أو كيميائيَّةٌ لإضفاءِ طابعٍ عصري، أو كلاسيكي عليه، حسبَ الحاجة.
وتبدأ رحلةُ إنتاجِ الدنيم من زراعةِ القطن، هذا النباتُ الذي يُنتِجُ كراتٍ من الألياف، تُغلِّفُ بذوره بوصفها وسيلةً للحماية. تُقطَف هذه الكراتُ، وتُفصَل الأليافُ عن البذور، ثم تُنظَّف، وتُمشَّط، لتُصبحَ قابلةً للغزل. وفي مرحلةٍ لاحقةٍ، يتمُّ غزلُ الأليافِ إلى خيوطٍ باستخدامِ آلاتٍ صناعيَّةٍ متقدِّمةٍ، وغالباً ما تُصبَغ الخيوطُ في هذه المرحلةِ باستخدامِ صبغةِ النيلي الزرقاء التي باتت مرادفاً للجينز. ويمكن أن تخضعَ الخيوطُ لمعالجاتٍ كيميائيَّةٍ، أو طبيعيَّةٍ، تختلفُ باختلافِ النتيجةِ المرغوبة في القماشِ النهائي.
وبعد الانتهاءِ من صبغِ الخيوط، يتمُّ نسجُها بأسلوبِ الوجه المائل Warp-Faced Twill، الذي يُميِّز قماشَ الدنيم عن غيره من الأقمشة، ويمنحُه متانتَه الفريدة. ويُنتَجُ القماشُ عادةً على شكلِ لفَّاتٍ كبيرةٍ، تُباع بالأمتار، ثم تُستَخدمُ في صناعةِ الملابسِ الجاهزة، والقطعِ المصمَّمةِ حسبَ الطلب.
وفي العصرِ الحديث، أصبحت تصاميمُ الجينزِ متنوِّعةً بشكلٍ يعكسُ الاتِّجاهاتِ، والأساليبَ المختلفة، من الخصرِ العالي، إلى القصَّاتِ الواسعةِ، والضيِّقةِ، والممزَّقةِ، وحتى الجينزِ المصبوغِ والمطرَّز. وقد تحوَّل الدنيم إلى وسيلةٍ للتعبيرِ عن الذات، وهو ما جعله حاضراً في جميع الفئاتِ العمريَّةِ والاجتماعيَّة، من ملابسِ العملِ إلى عروضِ الأزياءِ العالميَّة.
التقاء الأزياء الراقية بالدنيم

ربما كان الأمرُ مستبعداً سابقاً، لكنْ الدنيم، وجدَ طريقه إلى عروضِ الأزياءِ الراقية! فخلال أسبوع الموضةِ في باريس، أطلقت دورٌ مثل بالنسياغا Balenciaga، وجان بول غوتييه Jean Paul Gaultier، وسكياباريللي Schiaparelli، وإيلي صعب Elie Saab مجموعاتٍ استثنائيَّةً، تضمَّنت قطعاً مصنوعةً من الدنيم، أو مستوحاةً منه.
في عرضِ فالنتينو Valentino لشتاءِ 2023، افتُتِحَ الحدثُ بسروالٍ، يشبه الجينز، لكنَّه مصنوعٌ من حريرٍ مطرَّزٍ بحِرفيَّةٍ مذهلةٍ، ليمزجَ بين الراحةِ والبذخ. أمَّا جان-بول غوتييه Jean Paul Gaultier، فقدَّم في أوَّلِ عرضِ كوتور له عام 1997 تنانيرَ جينزٍ مطرَّزةً بزخارفَ مستوحاةٍ من البلاطِ الملكي في فرنسا، ما وضعَ حجرَ الأساسِ لدمجِ الدنيم في الكوتور.

منصّة عروض الأزياء

بدأ الدنيم يفرضُ حضوره في عالمِ الأزياءِ الراقيةِ في أوائلِ القرنِ الـ 21، وفي عامِ 2015، أطلق متحفُ FIT في نيويورك معرضاً بعنوان Denim: Fashion’s Frontier، استعرضَ فيه أكثر من 70 قطعةً، تُمثِّل مراحلَ تطوُّرِ هذا القماشِ من القرنِ الـ 19 وحتى الحاضر.
واشتمل المعرضُ على قطعٍ نادرةٍ، منها سروالُ جينزٍ، يعودُ إلى أربعينيَّات القرنِ الـ 19، وفساتينُ عصريَّةٌ من تصميمِ جونيا واتانابي Junya Watanabe، إضافةً إلى تأثيراتِ ثقافةِ الهيب هوب في التسعينيَّاتِ من خلال تصاميمِ تومي هيلفيغر Tommy Hilfiger ، وليفي شتراوس Levi Strauss.
ولا ننسى المصمِّم رونالد فان دير كامب Ronald van der Kemp الذي كرَّس جزءاً من مسيرته لإعادةِ تدويرِ الدنيم بطرقٍ فنيَّةٍ خلَّاقةٍ، كما أن ديمنا Demna في دارِ بالنسياغا Balenciaga، استخدمَ الدنيم لبناءِ تصاميمَ معماريَّةٍ مذهلةٍ.
يمكنك أيضًا الاطلاع على أسبوع الهوت كوتور في باريس: الألوان الدارجة لصيف 2025

الإرث العالمي

واليوم، يُقدَّر أن أكثر من نصفِ سكَّانِ العالم، يرتدون الجينزَ يومياً. هذه الشعبيَّةُ الهائلة، تجعلُ من الجينزِ أكثر من مجرَّدِ قطعةِ ملابس. إنه ظاهرةٌ ثقافيَّةٌ واقتصاديَّةٌ، لا يمكن تجاهلها.
وفي عالمٍ، يتغيَّرُ بسرعةٍ، يظلُّ الدنيم ثابتاً بوصفه رمزاً للمرونةِ، والحريَّةِ، والتعبيرِ عن الذات. سواء تمَّ ارتداؤه في حفلةٍ موسيقيَّةٍ، أو في مكانِ العمل، أو على منصَّةِ عروضِ الأزياء، يبقى الدنيم نسيجاً، يتخطَّى الزمن، ويحملُ في طيَّاته تاريخاً طويلاً من التحوُّلاتِ الاجتماعيَّةِ، والموضةِ، والابتكار.

تعدد الاستخدامات

الدنيم، ليس قطعةَ ملابسَ فقط، بل هو أيضاً إحياءٌ أنيقٌ لروحٍ جريئةٍ في ديكورِ المنزل. سواء كنتِ تُجهِّزين ركناً دافئاً ومريحاً، أو تُصمِّمين مساحةَ معيشةٍ راقيةً، يُضفي أثاثُ الدنيم لمسةً من الرقي، تجمعُ بين الأناقةِ والعمليَّة. يتوافرُ الدنيم بدرجاتٍ لونيَّةٍ عدة، من النيلي العميقِ إلى الأزرقِ الباهت، لذا اختاري الدرجةَ التي تناسبُ الأجواءَ التي ترغبين فيها، فالألوانُ الداكنة، تضيفُ طابعاً رسمياً، وأناقةً فاخرةً، بينما يمنحُ الدنيم الفاتحُ شعوراً بالبساطةِ والراحة. أمَّا الدنيم المزخرفُ، أو المنقوشُ، فيُعدُّ خياراً مثالياً لإضفاءِ لمسةٍ بصريَّةٍ لافتةٍ على أي غرفةٍ.
يمكنك متابعة الموضوع على نسخة سيدتي الديجيتال من خلال هذا الرابط

