«التصميمُ الداخلي، ليس مجرَّد مهنةٍ، إنه لغةٌ عميقةٌ، تُترجِمُ عمقَ علاقةِ الإنسانِ بمكانه». بهذه العبارةِ، لخصَّ لنا الفنَّانُ السعودي نوَّاف النصَّار، مصمِّمُ العمارةِ الداخليَّة، ما فهمه عن التصميمِ خلال 33 عاماً، تُشكِّل عمرَ عمله في المجال، ومسيرتَه التي تعاملَ فيها مع المساحاتِ كما لو كانت كائناتٍ حيَّةً، فهو، حسبما وصف، يستمعُ لنبضها، ويقرأ صمتَها، ويحاولُ أن يكتبَ معها حكايةً، تُشبه ساكنيها.
هائماً في شوارعِ القاهرة، قادماً من سمرقند، وعائداً بعدها إلى جدة، التقينا النصَّار، صاحبَ النظرةِ المميَّزةِ والدافئةِ للتراث، والأماكنِ والبيوتِ، والتصميمِ الذي كرَّث حياته له، فكان لنا معه هذا الحوارُ على خلفيَّةِ حضوره أسبوعَ القاهرة للتصميم حيث قدَّم محاضرةً عن فنِّ الإصغاءِ للمجتمعاتِ قبل التصميمِ لها.
نوّاف النصّار

في البدءِ، ما فلسفتُك الخاصَّةُ في التصميم؟
أنا لا أبدأ التصميمَ بخطوطٍ على الورق، بل بهمسةٍ من المكان. أصغي لذاكرةِ الجدران، ونبضِ الحِرَف، لظلٍّ مرَّ فوق عتبةٍ قديمةٍ. أؤمنُ بأن التصميم، ليس شكلاً يُنسَج، وإنما روحٌ تُستَحضر. هو ينمو من جذورِ الهويَّة، ويتَّجه نحو أفقٍ، يتغيَّرُ كما نتغيَّرُ نحن. أصمِّمُ كما لو أن المكان يتنفَّسُ مع الإنسان، يتكيَّفُ معه، يحتضنُ لحظاته، ويروي قصصَه قبل أن يُسكَن. فلسفتي ألَّا أفرضَ على المساحةِ شكلاً، بل أن أفتحَ لها فرصةً، لتقولَ مَن هي، وماذا تريدُ أن تصبح.
التصميمُ عندي حوارٌ بين ماضٍ نحمله، ومستقبلٍ نجرؤ على أن نتخيَّله، وبينهما تنبضُ التفاصيلُ، تلك التي تُعيد للعيشِ معناه.
ما الذي تبحثُ عنه في المساحةِ التي تُصمِّمها، لتبدأ منها رحلتك؟
أبحثُ عن الضوءِ الذي يصنعُ المزاج، والتفاصيلِ التي تبقى، والاتِّساقِ الذي يجعلُ المكانَ صادقاً مع نفسه. على مدارِ 33 عاماً، عملتُ على مساحاتٍ مختلفةٍ: سكنيَّة، وتجاريَّة، وثقافيَّة، لكنْ ما يجمعها جميعاً رغبتي الدائمةُ في أن يشعرَ مَن يدخلها بأن المكانَ يعرفه، ويحتويه، ويمنحه مساحةً ليكون نفسه.
ما تعريفك للتصميمُ الناجح؟
أؤمنُ بأن التصميمَ الناجح، هو الذي لا يفرضُ جماله، بل يكشفُه. إنه التصميمُ الذي يخلقُ ذاكرةً، ويترك أثراً لا يُرى بالعينِ فقط، بل ويُحسُّ بالقلبِ أيضاً، وهذا ما حاولت تقديمه طوالَ رحلتي: مساحاتٌ، تتكلَّمُ بصدقٍ، وتعيشُ مع أصحابها، وتستمرُّ في التطوُّرِ مثلهم تماماً. هذه حكايتي مع التصميم. 33 عاماً من الشغف، وما زلتُ أكتشفُ أن كلَّ مشروعٍ فرصةٌ لابتكارِ معنى جديدٍ للجمال، وصنعِ مكانٍ، يُشبه الإنسانَ في لحظته الأصدق.
من العالم التصميم ما رأيك بالتعرف على الفنَّانُ والخطَّاطُ السعودي فهد المجحدي
«المكان الحلو بروح ساكنيه، وليس مصممه»
في حياتك الشخصيَّةِ، ما البيتُ الذي أثَّر فيك، وحفر بذاكرتك، ولا تنساه أبداً؟
البيتُ الذي لا أنساه، هو ذاك البيتُ الذي حملَ ملامحَ طفولتي، أو صادفتُه في جولاتِ العمر. البيتُ الذي لم تبقَ منه الجدرانُ فقط، بل وبقيت أيضاً روحُ أهله معلَّقةً في الهواء، تُضيء الماضي، وترافقُ الحاضر، وتمنحُ المستقبلَ وعداً بالجمال. إنها البيوتُ التي تسكننا قبل أن نسكنها، وتُخبِّئ في زواياها ضحكاتٍ قديمةً، ورائحةَ قهوةٍ، وأثرَ خطواتِ مَن رحلوا، أو ما زالوا. هي بيوتٌ، تُشبه الذاكرةَ حين تكون حيَّةً، وتُشبه الدفء حين يُصبح معنى، وليس مكاناً.
في مشوارك الفنِّي الطويل، أي المشروعاتِ التي نفَّذتها الأقربُ إلى قلبك؟
فعاليَّةُ التصميمِ عامَي 2017 و2018، المشروعُ الذي لم يأتِ من فراغٍ، بل وُلِدَ من فكرةٍ، تقاسمناها أنا وفريقٌ، آمنَ بها بكلِّ شغفٍ. لقد كانت لحظةً فارقةً، إذ كانت المرَّةَ الأولى التي تُفتَحُ فيها الأبوابُ أمام المصمِّمين والمصمِّمات، ليعرضوا إبداعاتهم للجمهور، ولتخرجَ الهويَّةُ المحليَّةُ إلى النورِ بأصواتِ مناطقها، وحِرفِ أهلها، وتاريخها، ومناخها، وحياتها اليوميَّة.
وعلى الرغمِ من أنني صمَّمتُ، ونفَّذتُ، وأشرفتُ خلال مسيرتي على مشروعاتٍ كثيرةٍ داخل السعوديَّةِ وخارجها، سواء في القاهرةِ، أو لبنان، أو باريس، أو لندن، أو جنوب فرنسا، وتعلَّمتُ من كلِّ تجربةٍ درساً جديداً، أضافَ لرحلتي إلا أن فعاليَّةَ تصميم، تبقى المشروعَ الأهمَّ عندي. هي ليست مجرَّد حدثٍ، وإنما مساحةٌ لإحياءِ روحِ المكان، وتمكينِ المصمِّم المحلي، وإعادةِ الاعتبارِ للهويَّةِ التي تمنحنا معنى، وتجعلُ التصميمَ امتداداً لقصصنا نحن، وليس تقليداً لغيرنا. تلك الفعاليَّةُ، هي اللحظةُ التي شعرتُ فيها بأن التصميم، يمكن أن يُصبح حركةً، وأن الفنَّ قادرٌ على أن يجمع الناس، ويُعيد قراءةَ الوطنِ بعينٍ أكثر محبَّةً وعمقاً.
أسبوع القاهرة للتصميم

أنت هنا في القاهرةِ لحضورِ فعاليَّاتِ «أسبوعِ القاهرة للتصميم»، كيف تصفُ تجربتك؟
في «أسبوعِ القاهرة للتصميم»، شعرتُ بأن الإلهام، كان يمشي بين الأزقَّة، ويلمسُ جدرانها القديمة، ويُوقظ فينا شغفاً لا ينام. إنها مدينةٌ، تعرفُ كيف تفتحُ قلبها للإبداع، وكيف تُحوِّل الـchaos ، أو الفوضى إلى موسيقى، والمساحاتِ إلى حواراتٍ نابضةٍ بالحياة. أتقدَّمُ بشكرٍ خاصٍّ لفريقِ Creative Dialogues على هذا التنظيمِ الرفيع، وعلى برنامجِ الزيارةِ المُلهم. يومان، كانت فيهما المعرفةُ رحلةً، والتجربةُ حواراً، والقاهرةُ معلماً، يفتحُ أبوابه للخيال.
في زيارتك قدَّمت ندوةً بعنوان «نصغي للمجتمعات ولا نصمِّم لأجلها»، ما الفارقُ بين أن تُصمِّم للمجتمع، وأن تُصمِّم مع المجتمع؟
تنسى في كثيرٍ من الأحيان، أنك بوصفك مصمِّماً من واجبك أن تستمعَ، وتحترم، وترى ما الذي يُريده منك المجتمع. بعد أن تستمعَ بصمتٍ إلى مجتمعك، تبدأ رحلتك في ربطِ الأشياءِ الجميلة التي تعكسُ شخصيَّة المجتمع، وتُلوِّن بها الفراغَ الذي يعيشون فيه، ويطلبون منك تصميمه، لأنه بنهايةِ المطاف، المكانُ «الحلو»، هو المكان الذي يعكسُ روحَ ساكنيه، وليس روحَ مصمِّمه.
يمكنك أيضًا التعرف على الخطاط السعودي سراج علاف
معضلات تواجه المصمم المعاصر
خلال وجودك في القاهرة، كنت على مقربةٍ من شارعِ المعز الذي يُعدُّ أكبر متحفٍ مفتوحٍ في العالم، لكنَّه وفي الوقتِ نفسه سكنٌ، ومقرُّ حياةٍ لمواطنيه، وفي مثل هذه الحالات، ينقسمُ المصمِّمون إلى فريقين، فريقٌ يرى أولويَّةً في الحفاظِ على الأثر، وإخراجِ السكَّانِ منه، بينما يرى الآخرُ أحقيَّةَ السكَّانِ بالعيشِ فيه حتى لو غامرنا بسلامةِ الأثر، مع أي فريقٍ تتَّفق؟
من وجهة نظري، من الضروري أن يبقى السكَّانُ في مكانهم، ومن واجبِ كلِّ واحدٍ فينا تعريفهم بثمنِ هذا المكانِ وتاريخه دون سلبِ حقِّهم في العيشِ بالمكان، فهو جزءٌ من ذاكرتهم الشخصيَّة، وذكرياتهم وأجدادهم.
هناك تجربةٌ حيَّةٌ، تشهدُ على ما أقوله، وتحديداً بالدربِ الأحمر في القاهرة، وأقصدُ منزلَ «بيت يكن»، فهو مثالٌ على تعايشِ الحاضرِ مع الماضي دون أن يلغي أحدهما الآخر. إنه مكانٌ رائعٌ، حضرتُ فيه عديداً من الورش، وتعلَّمتُ من سكَّانِ الدربِ الأحمر عن المكانِ والعالم.
يمكنك متابعة الموضوع على نسخة سيدتي الديجيتال من خلال هذا الرابط





