mena-gmtdmp

هذه قصتي

د. سعاد الشامسي 
د. سعاد الشامسي
د. سعاد الشامسي

في هذه الحياةِ، الخروجُ عن المألوفِ، ليس خياراً سهلاً، بل هو مغامرةٌ، تشبه السيرَ على حبلٍ مشدودٍ بين جبلَين شاهقَين، فالنفسُ تهفو إلى ما تحبُّه، إلى ذلك الطريقِ الذي لا يعرفه أحدٌ، إلى صوتِها الخاصِّ وسطَ ضجيجِ العالم، لكنَّها في الوقتِ نفسه، تُحاصَرُ بتوقُّعاتِ الآخرين، تُطارَدُ بأحكامهم، وتُخيفها نظراتُ الاستغرابِ حين تسيرُ عكسَ التيارِ.


يُولَدُ الإنسانُ حُراً، ثم تتسارعُ حوله الدوائرُ: دائرةُ العائلةِ، فالمجتمعِ، فالمدرسةِ، ثم العملِ. وتبدأ الأسئلةُ: "لماذا اخترت هذا الطريقَ؟"، "ألن تندم؟"، "ماذا ستقولُ الناسُ؟". وحين تهمُّ النفسُ بأن تنطلقَ، يظهرُ العقلُ ليسألَ: "هل هذا منطقي؟"، ويقفُ القلبُ بينهما ممزَّقاً، يريدُ أن يتبعَ حلماً قد لا يعرفُ طريقَ العودةِ منه، ويخشى أن يُخذل، أو يُخذل.


الروحُ، تلك الجوهرةُ الهشَّةُ، تبدأ في التلاشي بين ما تريده، وما يُفرَضُ عليها. تتأرجحُ بين صوتٍ داخلي، يقولُ: "كن كما أنت". وصوتٍ خارجي، يهمسُ: "كن كما يريدون". وتتكرَّرُ المعركةُ، مراراً وتكراراً، كلّ صباحٍ، كلّ قرارٍ، كلّ خطوةٍ خارجَ النمطِ المرسومِ.


وأحياناً، تتوه الروحُ. ومع مشاغلِ الحياةِ والعالمِ وتسارعه، تذوبُ الأحلامُ القديمةُ، وتختلطُ الرغباتُ بالواجباتِ، وتضيعُ الملامحُ الأصليَّةُ للنفس. ننتظرُ لحظةَ صفاءٍ، لحظةَ فهمٍ، وربما نسمعُ الجوابَ، لا من العالمِ، بل من أعماقنا. ذلك الصوتُ الخافتُ الذي يقولُ: "أنت ما زلت هنا، ما زلت قادراً على البدءِ، على التغييرِ، على العودةِ إلى ذاتك".


في لحظةِ صدقٍ مع الذات، ينتصرُ الإنسانُ. لا ينتصرُ لأنه وصلَ إلى قمَّةٍ، بل لأنه قرَّرَ أن يحملَ روحَه كما هي، أن يرفضَ القوالبَ الجاهزةَ، أن يقولَ "لا" حين تعني "لا"، و"نعم" حين تكون من القلبِ، لا من العُرفِ. ينتصرُ حين يختارُ أن يكون صوتُه أوضحَ من صدى الآخرين، حين يُربِّتُ على قلبِه المرتبك، ويُطمئِنُ عقلَه الخائفَ، ويقولُ: "أنا المسؤولُ عن قِصَّتي".


نعم، هذه قِصَّتي. فالله خلقني لأكونها، لا لأعيش قِصَّتَك. قِصَّتُك ليست قِصَّتي.


الخروجُ عن المألوفِ لا يعني التمرُّدَ لأجلِ التمرُّدِ، بل أن تعيشَ بصدقٍ. أن تكون الإنسانَ الذي تُريده، لا الذي يُنتَظرُ منك أن تكونه. قد يكون الطريقُ شاقاً، موحشاً أحياناً، لكنَّه مليءٌ بالضوءِ، بالحريَّةِ، وبأشخاصٍ يُشبِهونك، أولئك الذين ساروا قبلك، وتركوا خلفهم أثراً خفياً، لا تراه العيون، لكنه يُشعِلُ الأرواحَ الباحثة.


في النهايةِ، لا تنتصرُ العادةُ، ولا ينتصرُ الخوفُ. ينتصرُ الإنسانُ حين يجرؤ على أن يكون ذاته.