mena-gmtdmp

الدراما والحياة: «لام شمسية».. دراما إنسانية تكشف المستور وتكسر حاجز الصمت

بوستر مسلسل لام شمسية - الصورة من الشركة المنتجة
بوستر مسلسل لام شمسية - الصورة من الشركة المنتجة

تُثبت الدراما مرةً أخرى علاقتها الوثيقة بالحياة اليومية، من خلال قدرتها على تسليط الضوء على قضايا اجتماعية ونفسية حساسة، يصعب تناولها في النقاشات العامة أو حتى ضمن الأحاديث الأسرية. وفي هذا السياق، يأتي مسلسل لام شمسية بوصفه عملاً درامياً استثنائياً نجح في طرح قضية التحرش الجنسي بالأطفال بطريقة إنسانية، واقعية، وراقية من دون اللجوء إلى مشاهد جريئة أو ابتذال؛ ما جعله حديث الشارع والنقاد والمختصين على حدٍّ سواء.


طرح جريء بحرفية عالية

مها متبولي

الكاتبة والناقدة مها متبولي أكدت أن المسلسل قدم معالجة درامية مميزة لقضية شائكة، عبر نص كتبته المؤلفة مريم نعوم، مدعوماً بدراسة معمقة بالتعاون مع مختصين في الطب النفسي، استغرقت سنوات من العمل والتخطيط. هذا العمق البحثي أسهم في بناء شخصيات متقنة، وحبكة قادرة على إيصال رسالة واضحة وصادقة من دون تهويل أو تهوين.

استجابة جماهيرية واسعة

وتضيف متبولي أن إعجاب الجمهور الكبير بمثل هذه النوعية من الأعمال الدرامية لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة مباشرة للتناول المحترم للقضية، الذي لم يخدش حياء المشاهد؛ ما شجع الأسر على المتابعة الجماعية للمسلسل من دون قلق أو تحفظ. هذا النجاح قد يفتح الباب أمام كتاب الدراما لتناول قضايا اجتماعية أخرى تهم المجتمع وتعكس معاناته اليومية.

أداء تمثيلي لافت وإخراج مبدع

من أبرز عوامل نجاح مسلسل "لام شمسية"، كما ترى الناقدة السينمائية مها متبولي، هو الدور البارز الذي لعبه المخرج كريم الشناوي، حيث استطاع بحرفية عالية توجيه الممثلين والحفاظ على انفعالاتهم بشكل يتناسب بدقة مع التركيبة النفسية لكل شخصية. هذا التوجيه الدقيق ساعد الجمهور على تصديق الشخصيات والتفاعل معها بعمق. وقد نجح الشناوي في تجسيد المشاعر والانفعالات من دون الحاجة إلى الحوار المباشر؛ فالفنانة يسرا اللوزي، التي أدت دور زوجة المتحرش، نقلت معاناتها وصراعاتها الداخلية من خلال تعبيرات وجهها وصمتها، في مشاهد كانت أبلغ من الكلمات. كما نالت الفنانة أمينة خليل، في دور "نيللي" زوجة الأب، إشادة كبيرة عن أدائها الصادق، حيث عبرت باحتراف عن حالة القلق والترقب التي تمر بها كثير من الأمهات في الواقع عند ملاحظتهن تغيراً في سلوك أطفالهن. أما الفنان كمال أبو رية؛ فقدم دور القاضي ببراعة وخبرة، وامتازت مشاهده بنقل واقعي نادر لمداولات الهيئة القضائية في أثناء مناقشتهم للحكم النهائي، في خطوة جريئة ومبتكرة تُحسب للمخرج كريم الشناوي.

 

تأثير المسلسل في الجمهور والمجتمع

لم يتوقف تأثير المسلسل عند حدود الشاشة، بل امتد ليغير سلوك الناس. تقول متبولي: "هناك أم أعرفها، كانت على علم بتعرض ابنتها للتحرش من قِبل أحد المدرسين، لكنها كانت صامتة خوفاً من الفضيحة أو الانتقام من ابنتها. بعد مشاهدة المسلسل، وجدت الشجاعة للحديث والإبلاغ عن المدرس".
وتضيف أن الدراما هنا قامت بدور تثقيفي وتحفيزي للأسر على عدم السكوت عن الأذى، وطلب الدعم النفسي عند الحاجة. وهنا برز الدور التوعوي الحقيقي للدراما، الذي حثَّ الأسر على عدم السكوت عن الأذى، والسعي للحصول على المساعدة القانونية والنفسية.
تابعي: تفاصيل عرض "لام شمسية" بمهرجان SeriesFest في أمريكا

«لام شمسية».. دراما تفضح المسكوت عنه وتحرر الضحايا من الصمت

الدكتورة عبير مجدي

ترسخت رسالة مسلسل لام شمسية بقوة في الوعي العام، خصوصاً بعد الحكم التاريخي بالسجن المؤبد على متحرش ثمانيني كان يعمل في الإدارة المالية بمدرسة "كارما" في دمنهور، بعد اعتدائه جنسياً على الطفل ياسين "10 سنوات" لمدة عام كامل. هذا الحكم شكل انتصاراً ليس فقط لضحايا التحرش، بل أيضاً لفن درامي اختار أن يكون في صف الحقيقة والعدالة.
تعلق الدكتورة عبير مجدي، المتخصصة النفسية، على هذه الواقعة، مؤكدة أن المسلسل قدم صحوة درامية راقية على المستويين النفسي والاجتماعي، وفتح باباً للنقاش حول أزمات الأطفال النفسية بعد التعرض للتحرش، مشددة على ضرورة عدم اعتبار هذه الأزمات وصمة عار، بل بوابة لفهم معاناتهم ومساندتهم.

التأثير الواقعي للمسلسل: من الشاشة إلى المحاكم

لم يكن تأثير لام شمسية نظرياً؛ فقد انعكس مباشرة على أرض الواقع، حيث تجلت شجاعة أم ياسين، التي قررت كسر حاجز الخوف والتوجه إلى القضاء رغم التهديدات، مستلهمة من قصة "يوسف" في المسلسل، الذي قاد نموذجاً في الصدق والبوح واسترداد الكرامة. وقد اختار ياسين أن يرتدي في جلسة المحاكمة زي "سبايدر مان"، في مشهد مؤثر يشير إلى رغبته في تمثل شخصية تقاتل الشر وتنتصر عليه.
وتقول د. عبير: "كل الاحترام لمن كانت لديه فكرة ارتداء الطفل هذه الملابس، سواء كانت الأم أو الطفل نفسه؛ فهذا التعبير البصري ساعده نفسياً على مواجهة المتحرش". كما أثنت على قرار العائلة بإخفاء وجه الطفل وعدم تداول صورته حفاظاً على مستقبله وهويته.

الواقع يتجاوب: قصص من مريم إلى ضحايا آخرين

في شبين القناطر، ظهرت حالة مشابهة؛ الطفلة مريم "10 سنوات"، التي تعرضت لتحرش متكرر من حارس عقار، لكنها خافت لسنوات من تهديداته. بعد مشاهدتها المسلسل، وجدت الجرأة للتحدث، وذهبت مع عمها لتقديم بلاغ رسمي. التقرير الطبي كشف فقدانها لعذريتها. وتؤكد د. عبير أن هذا المشهد الواقعي يُظهر كيف يمكن للدراما أن تُلهم ضحايا حقيقيين للخروج من دوائر الخوف والصمت.
وتضيف: "أحيي بشدة المخرج كريم الشناوي على تتر النهاية، حيث ربط صورة الطفل بالوطن بأغنية ’اسلمي يا مصر‘، تعبيراً عن تطهير المجتمع من نماذج دخيلة ومؤذية".
تابعي مخرج "لام شمسية" يكشف استعدادات التعامل مع أطفال المسلسل

البعد النفسي: تقاطعات دقيقة بين الخيال والواقع

تشير د. عبير إلى تطابق لافت بين الأعراض التي ظهرت على الطفل "يوسف" في المسلسل —كالتبول اللاإرادي، القلق، والعصبية— وتلك التي تلاحظها في الواقع على الأطفال ضحايا التحرش. وخصت مشهد الاستجواب القضائي بالثناء، حين قال الطفل للقاضي: "أنا حكيت لبابا، هو هيحكي لك"، معتبرة إياه تجسيداً صادقاً لثقة طفل بوالده، وألم داخلي عميق عجز عن وصفه بالكلمات.
لكنها في المقابل تحذر من التعميم، مشددة على أن هذه الأعراض ليست دليلاً قاطعاً دائماً على التعرض لتحرش، بل يجب الرجوع لطبيب نفسي مختص لتحديد الأسباب بدقة؛ لأن بعض الأعراض قد تعود لأسباب مرضية أخرى.

تجاوز النمطية والدراما المضللة

أشادت د. عبير بالتزام المسلسل بالمبادئ النفسية والأخلاقية، وابتعاده عن المبالغات والدراما المفتعلة، مع تقديم معالجة واقعية ومحترمة. كما أثنت على أداء الممثل محمد شاهين الذي جسد شخصية المتحرش "وسام" بطريقة مغايرة للصورة النمطية؛ ما نبه الجمهور إلى أن المعتدي قد لا يكون دائماً غريباً أو شاذاً في مظهره.
كذلك عبرت عن إعجابها بدور الطبيب النفسي الذي أداه علي قاسم، مشيدة بالدقة والاحترافية في تصوير تفاعله مع الطفل المعتدى عليه. كما أشادت بالفنانة أمينة خليل التي جسدت دور الأم بواقعية مؤثرة، من خلال رصدها لتغيرات سلوك طفلها ومواكبته بدعم متواصل.

الفن أداة تغيير وليس ترفاً

تختم د. عبير مجدي قائلة: "لقد أكد مسلسل لام شمسية أن الدراما ليست ترفيهاً فقط، بل أداة فاعلة للتغيير المجتمعي حين تُنفَّذ بحرفية وصدق. لقد كسر حاجز الصمت، وحرك المياه الراكدة في واحدة من أكثر القضايا حساسية، مقدماً نموذجاً يُحتذى به في كيفية توظيف الفن لخدمة الإنسان والوعي الجماعي".
في زمنٍ كاد فيه الصمت يتحول إلى قاعدة، جاء لام شمسية ليكسر هذا الصمت بصوت الفن، ويضع ألمه على طاولة الحقيقة. ليست القضية مجرد مشاهد تلفزيونية تنتهي بإغلاق الشاشة، بل هي نداء مستمر لكل أسرة، لكل معلم، ولكل صاحب ضمير حي، بأن الإنكار لم يَعُدْ مقبولاً، وأن الحماية تبدأ بالتصديق والدعم. لقد أثبت المسلسل أن الدراما حين تصدق، تُشعل شرارة التغيير، وتمنح الضحايا صوتاً، والمجتمع وعياً لا يُنسى.
يمكنك أيضاً الاطلاع على: بين الكم والجوهر.. من يفوز في سباق دراما رمضان؟