mena-gmtdmp

أجملُ اللغات

إسمها بوا. وموتُها يعني انتهاءَ واحدةٍ من أقدمِ لغات العالم، وبعضُها عُمرُه 65 ألف سنة.

<<<

 

استوقفني النبأ لدى مطالعته في إحدى الصحف اليومية، ورحتُ أتساءل: هل ان موتَ شخصٍ واحد يُنهي لغةً بعمرِ الزمن؟...

<<<

 

وهي إحدى اللغات الهندية القديمة. وكانت المرأةُ في الخامسة والثمانين، واللغة غير مكتوبة؛ إنما تناقلتها الأجيال عبْر ذلك التاريخ الطويل.

<<<

 

وعدتُ بالذاكرة الى العام 1989، حين دُعيت الى منطقة في القطب الشمالي من كندا، حيث تقيمُ جماعاتُ «الإنويت». وهم الشعب الذي سكن المناطق القطبية طوالَ آلاف السنين.

وكانت غايةُ الدعوة والتي وجّهها نادي القلم الى بعض الكتاب في العالم، بمثابة نداء الى التعرّف الى أمثال «بوا»، من حافظات القصص والتراث. ولم تكن تلك اللغات مكتوبة.

وكانت لنا عدّة لقاءات معهن، حافظات التراث.

ولا يزال وجهُ تلك السيدة، التي راحت تروي لنا الأساطيرَ والقصص، ماثلاً في الذاكرة. وكانت هي أيضاً تجاوزُ الثمانين من عمرها، وتحفظ التراث.

وكان المسؤولون عن دعوتنا يعون أنها لغات، بل حضارات قديمة، وفي طريق الزوال؛ لذلك شاءوا أن يسجّلوها قبل أن تضيع.

<<<

 

وجاء في الخبَر الأخير عن «بوا» ان مدير موقع الأصوات المتلاشية لسكان جزر «أندامان» الأصليين، البروفسور «أنفينا أبي» هو مَن اهتمّ بذلك الحدث، وقام بنشرِ أخباره، لكي يبعث رسالةً الى العالم، وينبّه الى تحوّلاتٍ قلّما تثيرُ الإهتمام.

ولأن القبيلة، التي تنتمي إليها تلك السيّدة في جزر أندامان، تحضن واحدةً من أقدم حضارات البشر المنذرة بالإنقراض.

<<<

 

ومن دراسةٍ نُشرت للمناسبة، أن عدداً كبيراً من سكان تلك الجزر توفّي بسبب أمراضٍ جاء بها الغريبُ المستعمر.

ولا يزالُ هناك 52 شخصاً فقط على قيد الحياة.

أما تلك السيدة الراحلة فقد كانت عميدة السكان؛ ونجت من «تسونامي» حين ضرب الجزر في العام 2004.

<<<

 

تكمن خطورةُ هذا الحدث في أنّه ليس فريداً، بل يتكرّر.

وقد نبّهت لذلك منظّمة اليونسكو عندما خصّت اللغة الأم بحملةٍ كبرى؛ وأشارتْ بعضُ الدراسات الى لغاتٍ كثيرة تناقلتها الشعوب، وعلى مدى آلاف السنين، من دون أن تُدَوَّنَ في الكتب بل بقيت معتمدةً على الذاكرة.

<<<

 

ان ذلك الزوال لن يصيبَ لغات عريقة، ومدوّنة في الكتب؛ إنما يتهدّدها خطر من نوع آخر، وهو سيطرة لغة واحدة عبر شبكات التواصل الحديثة.

وربما كان ذلك ما دفع الرئيس الفرنسي مؤخّراً، الى قرعِ ناقوسِ الخطَر، ودعوة الناطقين باللغة الفرنسية، الى التمسّك بلغتهم وقواعدها؛ واعتمادها واسطة التراسل عبر جميع الوسائل، قديمها وحديثها.

<<<

 

وماذا نقول عن لغتنا العربية، ونحن نسمع شكاوى المربين، من أهل ومدرّسين، ومعاناتهم لجعل الأجيال الجديدة تعتمد العربية لغة التراسل والتواصل.

ومن خلال لقاءات أخيرة لي مع الطلاب، أدركت بأنها معاناة حقيقية، ويحاول المربَّون ان يجدوا لها الحلّ إمّا عن طريق المطالعة أو اعتماد محفِّزات تدفع الطلاب الى بذل جهد أكبر وأعمق، لإتقان لغتهم الأم.