بيني وبينه أغنية فيروزيّة أحمّلها أشواقًا تزدحم بها الروح، مدينة
تلبس ريش الحمام وأهازيج الأعياد، أحبك يا فينيقية منذ أن سافر أرزك ليعانق
الزيتون في وطني، وحين التقيتك أول مرة كنت أحدّق في عيني سيدة أعرفها، التقيتها
في قرطاج أميرة عاشقة، من رمادها تفوح الأزهار، وتنبعث الفراشات مع مطلع كل ربيع
جديد، والتقيتها أيضًا في أصوات عذبة تغنّت بجبالها وروابيها وشوارعها.. ألم تقل صباح
«آلو بيروت من فضلك يا عينيّ» ألم تتغن بالضيعة وبشارع الحمراء وبالروشة.
وهل تركت فيروز في بيروت حجرًا أو شجرة لم تُقحمها في أغانيها الرائعة.
ها أنا أمشي في شارع الحمراء منبهرة بما يحيطني: نساء أنيقات يُجدن صناعة الجمال، يتمخترن مثل فراشات تطير بالعقول والعيون، واجهات الدكاكين تناديك، تستوقفك حتى وإنْ كنت لا ترغب في شراء شيء، المطاعم تعرض مأكولات لبنانية متنوعة «كبة، تبولة، الأرز بأنواعه، البط المحمّر بالبصل.. إلخ»، أعبر الشارع إلى غيره باحثة عن المنزل الذي تقطنه صديقة لي بين منازل وعمارات معظمها جُدّد بناؤه، وقد يعود ذلك إلى الحرب وما تخلفه من دمار وويلات، تجعل الأمكنة تفقد ملامحها، والناس يتغيرون بعد أن يتعلموا وسط ذلك الجحيم طباعًا جديدة، الشارع يُسرع بي إلى منزل صديقتي.. بعد لحظات وجدتني أجلس في صالون مرتّب وبسيط، لا يحتوي أثاثًا فاخرًا، لكنه مريح، قالت صديقتي مُرحبة مرة أخرى: «إن شاء الله ما تكوني تعذبت بالجية؟»، وكان جوابي أن من يمشي في شوارع بيروت يتمنى أن يضيع هناك حتى لا يبتعد عنها، في اليوم الموالي دعتني صديقتي إلى زيارة بعض المتاحف والمسارح، القديمة منها والحديثة، وبالطبع كنت متشوقة إلى «بعلبك» التي امتلأت بعطر فيروز وبأزهار صباح وبأصداء كثيرة تتردد في أرجائها، تمنيت لو تبعثرني ريح ذلك اليوم الشتويّ على أدراجها، فألتحم بأغنيات تسكن التراب، تمتزج بالحجارة، آهٍ يا بيروت، أيتها العاشقة التي تحتفل بالحياة حتى وهي محاطة بالخراب والبنادق، ها أنتِ تتجمّلين على سهرة عيد الميلاد، تهيئين الشمعدانات الفضية، تخيطين الأثواب، وتتعلمين رقصة تليق بالعيد، فلا تبكي يا مدينة الأحلام، إن دموعك قلادة لؤلؤ في جيد أنثى غالية، ليست ككل النساء، إنها الحياة تتفتح في أرواح اللبنانيين، تدعوهم إلى الحب، إلى السلام، إلى بناء منزل العائلة، المنزل الذي يجمع الإخوة دون أن يميز بينهم.
من «بعلبك» طارت حمامة بيضاء، على جناحيها كتب ملحم بركات اسم مدينته، اسم الحبيبة الأولى، معها طرنا لنحلق مثل نورستين في فضاء «الروشة»، زرقاء، خضراء، اختلطت ألوانها، تلك السماء التي صوبت مقلتيها باتجاه البحر، جمعت صديقتي المحار، وجمعت أنا بعض الحصى، الذي بدا لي غريبًا، يتشكل في أحجامه المختلفة: عقيقًا، رزًّا، أسنانًا، لم نشعر بالوقت يسحبنا خارج ذواتنا، يرفعنا إلى فوق، مع دخان السجائر التي عبَّقت وسط سكون المكان، فامتلأ بها، وامتلأنا نحن به وبها وبكل التفاصيل المطلة من هناك.