mena-gmtdmp

إنجاز

 لم  أكن أعرف يوسف وجولان. اجتمعنا في الكافيتيريا ذات مساء. وجلسنا حول نفس الطاولة؛ لنتناول طعام الإفطار.

كان أول رمضان أمضيه في  ستوكهولم. بعثني فرع الشركة السويدية الذي أعمل فيه في فرنسا في دورة تدريبية إلى السويد. استلمت مهمة مكتبية في الطابق الخامس، وحين حل رمضان، ناقشت مع رئيسي المباشر ظروف العمل فيه، وأخبرني أنها عادية.  ليس لديهم موظفون مسلمون. ولم يطرح موضوع رمضان من قبل. وليس له أن يطرح. الشركة غير معنية بممارسات موظفيها الدينية. تلك أمور شخصية بحتة.

لم يكن الرد وديًّا. ألححت رغم ذلك، وطلبت لقاء مسؤولين آخرين، وحظيت في ظرف بضعة أيام من المناقشات الماراثونية بامتياز. قال لي رئيسي الذي لم يكن راضيًا عنه إنه يزج بالشركة في متاهة من المشاكل. فاليهود سيطلبون أن يحظوا بامتيازات مماثلة، والكاثوليك، والأرثوذوكس، والسيخ، والهندوس، ومن يدري؟ من أيضا من الأقليات الدينية التي لم يسمع عنها أحد من قبل في الشركة.

وفعلاً، لم يلبث أن تقدم موظفان بطلب الاستفادة من امتيازي، باعتبارهما مسلمين أيضًا.

امتيازي كان بسيطًا: تم نقل استراحة غذائي الرسمية إلى الفترة المسائية؛ لتصبح استراحة إفطار.

جولان شاب تركي، ويوسف تونسي كبر ودرس في مالطا، ولا يكاد يعرف شيئًا من العربية.

استراحتنا لا تكاد تتجاوز العشرين دقيقة. يأتي بعضنا أحيانًا بأكل من بيته. كعك شرقي أو تمر أو خبز محشو. ونطلب غالبًا ما يوفره مطعم الشركة من قهوة وعصائر وساندويتشات سريعة. نتحدث قليلاً. يحكي لنا جولان عن ليالي رمضان العذبة في اسطنبول، أصوات الأذان، وجماهير المصلين، والسهرات الشعبية، والأكلات، والجو الروحي غير العادي، ويقارن يوسف بين ما كان يحكيه له جده عن تونس، وما رآه فيها حين قام بزيارة خاطفة لها ضمن فوج سياحي، وأحدثهما أنا عن حنيني لبلدتي الريفية في جنوب المغرب، واشتياقي لطقوس رمضان بين الأهل والأحبة.

نأكل ونتحدث وعيوننا على الساعة الحائطية. السويديون لا يمزحون في مسألة الوقت. وعيون كل زملائنا مصوبة نحونا.

يأتي أحيانا بعض رؤساء الأقسام لشرب القهوة، ويجرون بعضًا من اجتماعاتهم في الكافيتيريا، في جو لافت من الجدية والمهنية التي لا تناسب على الإطلاق المكان المعد للأكل الجماعي الفوضوي. نحرص عندها على أن ننهي استراحتنا قبل وقتها؛ لكي لا نزعجهم، ولكي لا نعطي انطباعًا خاطئًا بأننا نسترق السمع إليهم، ونتجسس على أسرارهم.

مضى الشهر الكريم على هذا المنوال. نعمل دون كلل طيلة النهار، ونحاول ما استطعنا أن نقوم بكل ما يطلب منا وأكثر. بعض وسائل الإعلام اليمينية المتطرفة كانت تتحدث عما تكبِّده طقوس الأقليات الدينية للاقتصاد السويدي من خسارة، وكان المقصود بالأقليات المسلمين الذين يصومون وتقل كفاءتهم خلال شهر رمضان بسبب الجوع والإعياء، فتنخفض مردوديتهم، وتدفع الدولة الثمن. خشينا أن يتأثر وضعنا في الشركة بهذه الحملة، وقلقت بشأن التقرير الذي سيرسل لإدارتي في فرنسا في نهاية الدورة. ضاعفنا نشاطنا، وحاولنا ما أمكن أن ننسي رؤساءنا أننا نصوم، وظننا أننا فلحنا في ذلك حتى ذات مساء...

لم نكد نرشف بعض القهوة ونأكل قليلاً من التمر حتى دخل إلى الكافيتيريا ثلاثة رؤساء بينهم رئيسي المباشر، وتوجهوا نحونا. تطلعنا إليهم بقلق. اقتربوا، ودفعنا مقاعدنا بضجة، ووقفنا والخوف يشلنا. حيانا واحد منهم، واعتذر لأنه قاطع أكلنا. نعم، اعتذر. بقينا نحملق فيه كالبلهاء، دون أن نفهم شيئًا. تبسم، وقال إنه درس وزميليه نتائج التقييم الدوري، ورأى أننا نتربع على قمة هرم الموظفين الأكثر نشاطًا، والتزامًا، ومردودية خلال الأسابيع الثلاثة الماضية. وجاء هو نفسه وزميلاه؛ ليهنئونا ويبشرونا بأننا سنحصل على علاوات في نهاية الشهر.

تلعثمنا ونحن نشكرهم، ونظر رئيسي إليّ وقال إنه آسف؛ لأنه أخطأ في تقديره لتأثير طقوسنا الدينية على مردوديتنا. «أرى أن الصيام زاد من نشاطكم، وقلص الوقت الضائع في استراحة الغداء وفترات شرب القهوة. أجزم الآن بأن الصيام أمر جيّد لسير أعمال الشركة...».

وافقنا على ما قاله بهزة رأس، وقال الرئيس الذي تكلم في الأول وهو يضحك : «ليت باقي الموظفين يصومون معكم! ستحقق شركتنا عندها قفزة نوعية!».

ضحكنا معهم، ودعوناهم لتذوق التمر الذي أتى به جولان، وقمنا وراءهم لنلتحق بمكاتبنا.

لم آكل شيئا ليلتها. الفرح والفخر ملآ معدتي. وضعت رأسي بطمأنينة على الوسادة في وقت متأخر، بعد أن أنجزت تقريرًا طويلاً كلفت به، وحمدت الله على نعمه.