إنجاز

جاء في أواخر شهر نوفمبر. أحضره المدير بنفسه. طرق الباب، وقدمه لها. «موحا أو سعيد، أهله دراويش في حالهم، جاء به فقيه الجامع، اتركيه يستمع للدرس، هذا أفضل له من التسكع في الطرقات...».

كان بإمكانها أن ترفض قبوله. لم يتسجل بشكل قانوني. اسمه غير مطبوع على اللائحة الإدارية، وإذن...

لكنها لمحت خطفة الهلع في عينيه. بدا تائهًا، خائفًا، ومترقبًا. وهزت رأسها، وأدخلته.

أجلسته في الخلف، قريبًا من المكتبة، وأعطته ورقة وقلمًا، وأمرته أن يكتب عليها اسمه، وعمره، وعنوانه.

في نهاية الحصة أمرته أن يأتي بالورقة. لم يكن قد كتب عليها حرفًا. سألته بانزعاج لِمَ لم يفعل ما أمرته به. وتطلع إليها خائفًا. كررت السؤال، ولم يجب. حملقت فيه بحيرة. ندب صغيرة تغطي أماكن مختلفة في وجهه. خصل شعره الدهني تتدلى ببؤس على جانبي رأسه البارز من ياقة سترته الرياضية البالية. جسده الهزيل يتأرجح فوق ساقين نحيلتين يغطيهما بالكاد سروال قصير فتحت طياته السفلية؛ ليناسب طوله طول الولد.

صرفته. وذهبت إلى المدير.

أسرة الولد فقيرة جدًا. يتنقل الأب بين القرى؛ بحثًا عن عمل. فقيه الجامع رقّ لحاله وشغّله في ورشة ترميم الجامع. موحا ولده الأكبر. لم يسبق له أن دخل المدرسة. لديه ثلاث أخوات، وأخ رضيع. إجراءات تسجيله في المدرسة معقدة. فالأسرة لا تملك سجلاً مدنيًا، ولا أحد يعلم إن كانت ستمكث طويلاً في القرية أم لا.

هزت رأسها. وتنهدت.

أحضرت لموحا كتاب أبجدية ودفترًا وقلمًا. وبدأت تعلمه الكتابة والقراءة.

تأتي لطاولته كلما كلفت التلاميذ بتمرين، وتلقنه نطق الحروف وكتابتها. ينتبه لما تقوله. يردده. ويكتبه بصمت. تواصل درسها معه خلال الفسحة. تسأله أحيانًا إن كان يفضل اللعب مع الآخرين. ويهز رأسه رافضًا، وينكبّ على تمارينه.

لمحته مرة يتطلع إلى رفوف المكتبة، وسألته إن كان يريد أن يتصفح الكتب. احمرّ وجهه، وابتسم.

لأول مرة منذ أن عرفته يفتر ثغره الصغير عن ابتسامة حقيقية. ابتسامة ارتجف لها قلبها. قام وأمضى وقتًا طويلاً أمام المكتبة. كرر نفس الشيء في اليوم التالي، واليوم الموالي... وصار تصفح الكتب وقت استراحته المفضل.

جاء المدير كعادته كل شهر يسأل عنه. طمأنته بأن الولد يدرس بجد، وشعرت بأحدهم يلمس ذراعها من الخلف بخجل.

كانت تقف مع المدير قرب باب فصلها.

التفتت بدهشة، وفوجئت به. موحا أو سعيد. تلميذها الفقير. وفي يده كتاب.

«معلمة، هل أقرأ؟» سأل، وحملقت فيه هي والمدير بصمت.

الفصل كله صمت فجأة. وانطلق صوت الولد الخافت، يقرأ وهو يرتجف القصة التي اختارها. لم يتهجَّها، بل قرأها بانسيابية ويسر.

انتهى، واغرورقت عيناها، وصفق المدير، وصفق الفصل.

لو قيل لها إنها فازت بالنوبل تلك اللحظة، لما تأثرت أكثر.