mena-gmtdmp

الجذور

   كان  الحديث يدور حول التربية، وهل تبدأ في البيت أم في المدرسة؟ وهو سؤال قديم ويظلّ يتجدّد مهما اختلفت وجهات النظر

>>> 

أما أنا فأركّز على البيت، والعائلة، وأقول إن التربية تبدأ هناك، ويشارك في صنعها والإشراف عليها الأم والأب أولاً، ثم الجدّان وسائر أفراد الأسرة.

وتبقى هذه النواة الصالحة لنشوء الأطفال نشأة صحيحة ومعافاة، ومهما تقدّمت العلوم وتطورت النظريات التربوية.

>>> 

وقد تكون تلك النواة، أي العائلة، بسيطة في مستوى العلم والمعرفة، إنما تعوِّض الطفل بما تُغدقه عليه من عطف وحنان لا يتوفران له في العالم الخارجي، ومهما بلغ المستوى العلمي.

>>> 

وهنا أتوقّف عند دور تلعبه الجدّة في التربية التقليدية؛ فهي الشخص المقيم داخل البيت (وهذا إن لم تكن جدّة عصرية، وصاحبة مهنة أو وظيفة). ثم لها من الخبرة ما يُمكِّنها من مساعدة الطفل على النشوء نشأة صحّية، في المعرفة والكيان، وقد توفّرت لها من خلال الخبرة. وحتى إن كانت تلك الجدّة أميّة علمٍ، يبقى هناك مخزون من التجارب والمعرفة تجمّعت لديها عبر السنين.

>>> 

أقول ذلك عن خبرة، وفي البال جدّتي؛ وقد نشأت في حضنها. وكانت ينبوع القصة والرواية، والخزّان الغني بالأقوال والحكم؛ وقد ورثتها، بدوْرها عن أمها، وعن جدّتها.

وهكذا كانت المعرفة تنتقل من جيل إلى جيل.

>>> 

أُقدّر ذلك الإرث اليوم، وكلما اقتربت من حفدائي وحاولت مخاطبتهم أو مداعبتهم بما حفظتُه عن الجدّة من ترانيم وحكايات ظلّت مغروسة في أعماق اللاوعي. وتبقى غافية، إلى أن أحتضن الحفيد أو الحفيدة فتنهض من الأعماق، وترنّم أو تروي بصوتها هي، جدّتي.

>>> 

لكن أطرف ما أسمعُني أردّد بصوتها هو القصائد المنغّمة وترافق مداعبة الطفل باللمس، ومع كل لمسة تطلُّ قافية مُنغّمة تغرس الهناء والطمأنينة في النفس البريئة.

>>> 

وقد حاول بعض الباحثين في التربية وفي التراث أن يجمعوا تلك القصائد في كتب أصبحت مما يُغني المشهد الأدبي والتربوي. إنما يظلّ النقل الحقيقي هو الذي يتم بملامسة الروح للروح، ومن خلال المداعبة اللطيفة في أحضان الجدّات.

>>> 

وفي تلك الأحضان تعلّمنا، كذلك، أصول السلوك الاجتماعي، والذي نكاد نفقده مع أجيال هذا الزمان، وقد ابتعدوا عن التراث، تمشِّياً مع دعوات الحداثة؛ واقتبسوا سلوكاً جديداً من خلال ما اقتبسوه من مجتمعات غريبة تعرّفوا إليها عن طريق السينما أو التلفزيون.

>>> 

وأبادر إلى القول: إني لا أدعو إلى التحجّر في الماضي، أو الوقوف في طريق عجلة التقدّم؛ لكني، ومن خلال ما تعلمته وخبرته في أصول التربية، بدأت أعرف أهمّية الجذور وقيمتها إذ من دونها يكون الضياع بل الاضمحلال.

>>> 

وهذا ما أكدته في كلمة ألقيتها قبل أيام في حفل تخرّج الطلاب من أحد المعاهد العريقة. فقد استحضرتُ وجوه الشبه بين تلك القامات الفتية الطامحة، والأشجار اليانعة حول مدينتهم. وهي مثلها بحاجة إلى التواصل مع الجذور، مصدر غذائها. وأكدت لهم أن مناسبة التخرّج هي أشبه بولادة جديدة نحو المجهول، أما جواز السفر إلى هناك فهو ما حصّلوه في معهدهم من علوم ومعارف، إضافة إلى ما غذّتهم به عائلاتهم وبيئتهم من أصول العيش والسلوك.

>>> 

أما دعوتي إلى الإنتماء وعدم نبذ الجذور فليست من أجل الجمود بقدر ما هي دعوة للمحافظة على علاقة صحية مع الذات إذ: «مهما حلّقتم بطموحكم، وتجاوزتُم مسافاتٍ بلغَها أهلكم، يبقى في الجذور سرّ وجودكم والكيان».

ثم أعدت، على مسمعهم قولاً لمحرّر الهند، الماهاتما غاندي: «أُرحّبُ بالريح من أية جهة أتت، إنّما أربأ بواحدة منها أن تقتلعَني من جذوري».