
في صالة الجمارك، قدّم الشاب
«برعي»، المغترب بالخارج لعدة سنوات، وراح تاركا حقائبه تحجز له مكانًا في صف
الجمارك الطويل، وراح سريعًا يبحث عن أحد مأموري الجمارك، والذي كان قد أوصاه به
أحد زملاء الغربة لتوصيل رسالة له، وتلك الرسالة مصحوبة بتوصية كبيرة لذلك
المأمور، ليعفي «برعي» من أي رسوم جمركية، وسأله ذلك المأمور بعد أن قرأ رسالة
التوصية الهامة، أمعك أجهزة كهربائية؟ ابتسم برعي وأجابه بكل صدق وصراحة، أن معه
فقط مروحة، ومكواة، وجهاز تسجيل بسيطًا، وتلفازًا ملونًا دقيقًا وصغير الحجم، تنهد
المأمور وهز رأسه بصورة غير مطمئنة لبرعي، وأجابه كل ما معك أجهزة وأشياء عادية،
والمشكلة في هذا التلفاز الملون الصغير! وتعجب برعي من إجابة الرجل «الواسطة»، أي
مأمور الجمرك، وأخذ المأمور يوضح له أن ذلك التلفاز الصغير تعتبره مصلحة ورعاة
الجمارك من السلع الاستفزازية! والمغترب برعي تعليمه متوسط لا يعلم السلع العادية
من الاستهلاكية من الاستفزازية من غيرها، وراح المأمور الموصى إليه، يشرح ويبرر له
أن التلفاز الصغير يعد من السلع «الاستفزازية» حيثُ رسوم جماركه ثلاثة، أو أربعة
أضعاف التلفاز الكبير العادي! فوقف المغترب برعي القادم حديثًا لبلده بعد رحلة عمل
طويلة شاقة في بلاد الغربة، بعد أن أخرج كل محتويات حقائبه لذلك المأمور الموصى له
للتفتيش الظاهري عليها، حائرًا متأملاً في تلفازه الاستفزازي المستعمل والقديم،
والذي عرض عليه أكثر من زميل له في غربته شراءه، ولكنه رفض رفضًا باتًا النقاش في
الموضوع، فهو قد اشتراه لمزاجه الخاص، وزوجته، ولكي يستمتعا معًا بالمشاهدة،
والاستمتاع به بعيدًا عن براثن أفراد عائلتيهما، خاصةً أنه كلما أحضر جهازًا خاصًا
به وبزوجته، طمع فيه سائر أفراد عائلته، ولكي يثبت مأمور الجمارك صدقه، استعان
بزملائه لكي يعاونوه على تخفيف «الحكم»، أي قيمة التعرفة الجمركية المستحقة على
المدعو برعي، حتى أوصلوا رسوم ذلك التلفاز الصغير لمبلغ ألفين! وذهل برعي، لأن سعر
ذلك التلفاز الدقيق في بلاد الغربة التي قدم منها، أقل من خمسمائة! وقد اقترح عليه
المأمور «الواسطة» أن يتركه بمخازن الجمارك، ويعيده إلى بلاد غربته مرة أخرى عندما
يهم بالعودة، وإذا أراد أخذه في أي وقت فليدفع تعرفة جماركه! وفكر برعي بالأمر،
وكاد أن يقتنع ويوافق، لولا أنه سمع اثنين من موظفي الجمارك يتهامسان بأنهما
سيضعان هذا التلفاز الاستفزازي في مكتبهما للاستمتاع بمشاهدته، فهلع برعي، وخشي
على سلعته الاستفزازية الثمينة من التلف، أو السرقة، ورفض اقتراح إبقاء سلعته
«المستفزة» قائلاً بتغطرس: سأدفع قيمة جماركه حتى ولو كانت عشرة آلاف! فغضب رجال
الجمارك من رده المتعجرف المتعالي، وفرضوا غرامة، أو تعرفة جمركية عالية على
سلعته، ودون أدنى تخفيض! وراح برعي وسدد مبلغًا كبيرًا بسبب مضاعفة رجال الجمارك تعرفته
انتقامًا من رده المتعجرف! وخرج من الجمارك كاظمًا حزنه على دفع المبلغ الكبير، أو
تعرفة سلعته الاستفزازية الدقيقة، ووصل بلدته حاملاً حقائبه، وخائفًا، وأشد حرصًا
على تلفازه الصغير، الذي ضمه لصدره حرصًا، وخوفًا عليه.
وبالفعل، استعمل تلفازه
الاستفزازي الصغير في غرفة نومه الخاصة، وكلما رآه أحد المقربين من أفراد عائلته
معتكفًا في غرفة نومه، يبحلق معظم الوقت باهتمام لشاشة تلفازه الدقيقة، يضحكون،
ويسخرون من حملقته في التلفاز الدقيق، الذي تكاد شاشته لا تُرى، وصوته يُسمع،
ولكنه تلفاز ملون واضح! فيبلغهم برعي أن ذلك التلفاز الدقيق يعدونه سلعة
«استفزازية» قيمتها عدة آلاف، وتساوي قيراطًا من الأرض الزراعية، فيسخرون منه،
ويضحكون على «خيبته» الثقيلة! فعادة ما يشتري المغتربون من بلدته تلفازات كبيرة
عريضة، تشعر مقتنيها ومشاهديها أنهم يجلسون في دور السينما، فيفضلون أطول فترة
جلوس أمامها للاستمتاع بمشاهدتها، أما تلفازه، أو سلعته «الاستفزازية» المملة!
والتي لا يتمكن المشاهد من رؤيتها بوضوح إلا عن قرب، فترهق العيون ولا يستفيد منه
المشاهد، واستعماله يكون عادة في أوقات حرجة، كالسفر، أو التنزه، أو أماكن العمل،
فيقنعهم برعي أن تلفازه أغلى، وأدق من أي تلفاز آخر كبير، ويصر على أن قيمته تساوي
قيراطًا، أو أكثر من الأرض الزراعية، فيفكهون منه ساخرين ضاحكين، ويقولون إذن
ازرعه قمحًا، أو أرزًا، واحصده، ووزع منه على الأقارب، فربما يكون حلاً من حلول
أزمة الغذاء!