mena-gmtdmp

شمس وغيم

من أين يأتي هذا الصباح اللطيف المشمس؟ الدنيا في الخارج برد وغيم، من أين تتسلل هذي الموسيقى؟ الجدران والنوافذ مصمتة.

أيمكن أن يأتيا من الذاكرة؟ لكنهما موجودان الآن. هنا. ربما كان من العبث أن نتساءل، فكل ما علينا هو أن نستمتع باللحظة الراهنة.. فلنا الساعة التي نحن فيها، وكل ما بعدها وما قبلها، هو ماضٍ انقضى لا يمكن تغييره، أو مستقبل لا نستطيع التنبؤ به.

لذلك علينا أن نسعد بالنسمة التي تهب الآن، ولا نشغل أنفسنا بالتساؤل عن مصدرها. ما أجمل الجمال! حتى إن أتى من الذاكرة.

> > >

آنستي العزيزة.. سيدتي.. لا تتعجبي مما أقول. تذكري أن معظم عمري هو الآن في ذاكرتي، أما الباقي فقليل. وهذا لا يحزنني. بالعكس، لكل شيء أوان.. أوان للتفتح وعمر من النضارة ينتهي، ولابد أن ينتهي، حتى تتفتح زهور جديدة.

إن من ملذات منتصف العقد السادس حب التأمل. فممارسته تلغي الجدران، وتجعل الكون كله والزمان كله، بل والمطلق واللانهاية قصرًا للعقل المتأمل، يتجول في أبهائه مبتسمًا، معجبًا ومتعجبًا من غنى الوجود، واحتمالات الوجود، كالذي أتاحه الله لحواسنا وعقولنا.

ولا تحسبي أيضًا يا صديقتي أني مذهول عما في الدنيا من آلام. فمازلت أنزل الشارع وأتابع الشاشات، إلا أنه من نعم الله على الإنسان ألا حالة عقلية تدوم.

الآن أنا حزين، لكني من خمس دقائق.. خمس دقائق فقط.. كنت مبتسمًا.

نعم، أنا حزين. أخشى أن يطول الشتاء هذا العام. أخشى ألا يأتي الربيع، أو يأتي متأخرًا فلا أحضره. حزين أنا.. وأحيانًا أكون أشد حزنًا.. لكنني مع ذلك بدأت هذا الكلام بصباح دافئ مشمس.

أيهما أصدق.. ما أحسه الآن من انقباض أن ما راودني عن قلبي منذ دقائق من بهجة؟ ربما كان التغير هو الأكثر صدقًا من كل حالات الشعور.. فنحن لسنا وجودًا ثابتًا، بل صيرورة، أي حال من التغير دائمة لا تهدأ، نتكون في بطون أمهاتنا، نولد ونظل في صيرورة مستمرة (و«الصيرورة» كلمة تأتي من «حال يصير إلى حال»)، نظل حالاً دائبة من النماء لا تهدأ؛ حتى نبلغ العشرين ونصل إلى الذروة جسدًا وعقلاً. ومن العشرين إلى الأربعين يتوقف حال النمو، ويظل الجسد والعقل يقاومان معاول الهدم حتى الأربعين.. وبعدها ندخل مرحلة جديدة من التغير.

ولكل مرحلة جمالها.. فها هي الشمس تدخل من شقوق شيش في الذاكرة.. رغم أن درجة الحرارة في الخارج 7 درجات مئوية. وها هي موسيقى منظمة هندسية وعذبة تنساب رغم أن الشوارع فوضوية خشنة.

والورقة خضراء، والقلم حبر أسود، وفنجان القهوة على المكتب.. ماذا أريد أكثر من هذا؟

مازال حولنا أحبابنا.. مازلنا نؤمن بالله، ونحب الخير، ونكره قبح النفوس، وخسة الأفعال.. مازلنا نحتفظ بقسط كبير من الجمال الذي خلقه الله فينا.

الحنان على الناس والحيوان والطير، الحب والمودة والدفء الإنساني.. مازلنا نملك شروق الشمس، وغروب الشمس، وبهجة المطر.