بكين في
ذاكرتي هي الاستعراضات الكبرى، والأعلام الحمراء، وطلة ماو في الميدان السماوي،
كذلك أحداث الثورة الثقافية الغامضة المأساوية، أما بكين التي نزلتها ليلة أمس
فتبدو مغايرة تمامًا، كل المباني حديثة، كأنها بنيت في وقت واحد مثل المدن الحديثة
في الخليج، صحيح أن الارتفاعات أقل من شانغهاي التي ترتفع فيها الأبراج الشاهقة،
ولولا الحروف الصينية المكتوبة على الواجهات لبدت أقرب إلى نيويورك، إلى مدن
ناطحات السحاب الكبرى، بجوار الفندق سوق مركزية ضخمة (مول)، بعض المباني تنتمي إلى
عمارة ما بعد الحداثة، حيثُ يتعانق الزجاج والألمونيوم، المطاعم عديدة متنوعة،
العمال منهمكون في تنظيف البلاط وحواف الأرصفة، وأيضًا واجهات المباني وزجاج
المتاجر التي لم تفتح أبوابها بعد، نصل إلى شارع السلام، مساء أمس عبرناه إلى
المطعم الإسلامي، إنه يؤدي إلى الميدان السماوي، أكبر وأشهر ميدان في العالم،
الشارع عريض ممتد، على جانبيه المباني حديثة، يمكن قراءة اللافتات التي تعلن عن
الأنواع الشهيرة، إن اللوجو يلعب دورًا كبيرًا في مفهوم العولمة، بيوت الأزياء
الشهيرة، أنواع العطور، المصنوعات الجلدية، أقلام الحبر، الأجهزة الإلكترونية،
سلاسل المطاعم والمقاهي الشهيرة، يبدو اللوجو ضروريًّا للتأكيد على أن البلد الذي
يرتفع فيه يسلك الطريق السليم في إطار منظومة العولمة الحديثة، إن وجود هذه
الماركات الشهيرة يعني وجود قادرين على شرائها، في الصين أسواق تخصصت في صناعة
أشهر الماركات العالمية، والحكومة الصينية التي تعهدت بإغلاق المصانع التي تنتج
المصنوعات المقلدة تقليدًا متقنًا، إنها تؤدي إلى ضرب مشروعية اللوجو.
في سيرنا الصباحي هذا الاستكشافي أحرص على ألا أبتعد كثيرًا، الشوارع فسيحة، مستقيمة، وصلنا إلى الرصيف المواجه لمحطة بكين التي مررنا أمامها أمس، لم ألمح أي صورة لماو، ولا قادة الحزب الشيوعي التاريخيين، ولم ألمح أي صورة لرئيس الصين الحالي أو قادتها، تبدو المدينة بحداثتها وضخامتها ولافتاتها أكثر حداثة من أي مدينة غربية، فقط بعض الملامح الخاصة مثل أسراب الدراجات التي تمشي في طرق مخصصة لها، وكذلك أعداد قليلة من دراجات أعدت لتنقل راكبًا واحدًا مثل عربات الركشا الهندية، لمحت مبنى الأكاديمية التي ننزل في ضيافتها، مبنى شبه رسمي، به تأثيرات من العمارة السوفييتية الستالينية، حيثُ تتشابه مساحات الواجهات وتمتد لمسافة، مثل هذا المبنى قليل في العاصمة.
التاسعة
الأبواب الإلكترونية
مازال في الوقت متسع لهذا دخلنا إلى السوق المركزية الضخمة (مول)، عمليات النظافة على قدم وساق، الأبواب مغلقة، جميع أنواع البضائع التي يمكن تخيلها من كافة أنحاء العالم، أشهر العلامات، المعروضات في هذه الأسواق حقيقية، غير مزورة، عند تمام العاشرة، العاشرة تماما بدأت الستائر المعدنية التي تفصل بين الأقسام والتي تغطي الواجهات ترتفع تلقائيًا، وكأننا في مسرح شديد الانضباط، الستائر ترتفع في الموعد المحدد ليبدأ العرض، الكل في لحظة واحدة ينتظرون الزبائن، ملمح هام من ملامح ما يجري في الصين منذ بداية الانفتاح والذي يحقق معادلة وعرة، انفتاح على أحدث ما وصلت إليه النظم الرأسمالية لكن بانضباط شيوعي صارم، تلك هي الأعجوبة إذا جاز تسميتها بذلك.