
هناك صور لوجوه تحتفظ بها الذاكرة ولا تشيخ...
وهكذا هي صورتُها.
وقد نهضت فجأة عندما بلغني نبأ وفاتها.
وكانت أستاذتي في المعهد الثانوي؛ وليست كسواها من مربّين: ماري جمل.
وكانت قادمة من فلسطين. وهي عروس في شهر العسل. وخارجة من فلسطين وكان العام 1948.
واستقرّت مع عريسها في جوار معهدنا الداخلي، الكلية الوطنية في الشويفات.
وكانت عروساً جميلة وأنيقة، في مظهرها وجوهرها.
وعندما تدخل الصف، كان يتضوّع عطرُها الخاص، وينتشرُ في الجوَّ، وتحيطُ بها هالة من نور.
أو هكذا كانت تتراءى لنا.
أما أنا، فكنت الحلقة الأضعف في صفّها، لجهلي اللغة الانكليزية، ولم أكن أعرف من تلك اللغة كلمة واحدة؛ بينما أهّلتني سائر المواد لأكون في الصف الثانوي الأوّل بحسب تصنيف امتحان الدخول.
وأذكر اني نجحت في جميع المواد ما عدا اللغة الانكليزية.
وأخذت معلمتي على عاتقها أمرَ إلحاقي بصفّي، فأشارت عليّ كي أبدأ دراستي لتلك اللغة من الصفّ الابتدائي الأول، ثم أتقدّم تدريجاً، الى ان أبلغ صفّي، أي الأول ثانوي.
أذكر أنها، في خلال ثلاثة أشهر، مكّنتني من الالتحاق بزميلات صفّي لأحقّق نجاحاً ملحوظاً.
وكانت معلمتي امرأةً جميلة، لطيفة، وشغوفة بعملها: أي التدريس.
وانتقلتْ الينا عدوى حماستها؛ فكنا نُقبل على درسها وكأننا نذهب الى نزهة جميلة في الهواء الطلق.
ثم دامت صداقتنا بعدما تخرّجتُ من المعهد الثانوي، ودخلت الجامعة.
وكنت ألتقيها بالمصادفة، فلا أبصرها في حاضرها، بل ظلّتْ تعود اليّ صورتها الأولى، عندما كانت ما تزال عروساً، وخارجة قسراً مع عريسها من وطنهما، فلسطين، حاملةً ثقافتها، وعلمها وأناقتها كي تفيد بها أجيالاً من الفتيات والفتيان.
وقد ظلّت تلك السيّدة في بالي، تمثّل مع زوجها نجيب جمل، اللقاء المثالي بين زوجين مثقّفين، يتعاونان على الدهر، ويتغلّبان معاً على المحن، وحتى لو كانت من مثل المحنة الفلسطينية والتهجير القسري من الديار الآمنة.
آخر مرّة التقيتها كانت لتعزيتها بوفاة زوجها.
وكانت تجلس وسط عائلتها، صامتة وحزينة في رداء أسود، ويختلف عن ثوبها الزاهي الملتصق بالذاكرة.
فقد رسخت صورتها في البال، عروساً أنيقة. كما بقي مظهرُها مع زوجها، يذكّرنا بمشاهد من السينما الرومانسية من ذلك الزمان.
وتسألني الصديقة:
ـ ألن تذهبي للتعزية بوفاتها؟...
لم أردّ على السؤال.فهناك أشخاص لا يشيخون. وتبقى صورتُهم متوهّجة في الذاكرة، كما كانت في الإنطباع الأول، ولا تتحوّل.ومعلمتي ماري تبقى في الذاكرة، عروساً جميلة، تزهو بثيابها الفاخرة وأناقتها، ومحاطة بوهج مرحها وحبّها للحياة.