mena-gmtdmp

عبر كليفلاند ليلاً ـ1ـ

 

أصر الدكتور نزار الصياد على مرافقتي حتى البوابة التي لا يُسمح باجتيازها إلا لمن يحمل بطاقة الطائرة وهويته، عانقت الرجل الذي أولاني عناية كانت مصدرًا لامتناني وخجلي، التفت بعد اجتياز البوابة ملوحًا، ثم مضيت أسحب حقيبتي الصغيرة التي لن أضطر إلى شحنها داخل الطائرة، مازال أمامي ساعة ونصف الساعة على موعد الإقلاع، سبع ساعات مدة طويلة توازي عبور المحيط من أوربا إلى الساحل الشرقي، عند قدومي من نيويورك لاحظت تواضع الوجبة المقدمة كمًّا وكيفًا، لا تتسق مع المدة، مقاعد الطائرة متقشفة، أرجعت ذلك إلى اعتبار الطيران داخليًّا.

اتجهت إلى المقهى الذي يقدم الوجبات الخفيفة وبالطبع المشروبات، للمقهى الأميركي عندي مرجعية مصدرها لوحة الرسام إدوارد هوبر، الذي اكتشفت أعماله عندما كنت أقلب صفحات كتب الفن التشكيلي في مكتبة باريسية لست متأكدًا من اسمها الآن، منذ ذلك الحين رحت أتتبع كافة ما يتصل به، كتبًا، أفلامًا، وقفت أمام بعض لوحاته الأصلية في القصر الكبير، عندما أقيم معرض موضوعه الشجن –ميلانكولي- وفي المتروبوليتان، والموما، وأيضًا ويتني وجدت نفسي فيه، كأنه يعبر عن تلك الحالة من الوحدة إزاء الأشياء والخلق، وحدة لا يبددها الصفو ولا حميمية الوجود بين الصحب، إعجاب أعتبره امتدادًا لمحبتي المستقرة للفنان الفرنسي تولوز لوتريك، صحيح أن مصدر الشجن عند كلٍّ منهما مغاير، مختلف، لكنهما يلتقيان في نهاية ذلك الأفق الرحب للإنسانية، أُقرن كلاًّ منهما بكتَّاب عظام؛ تشيخوف، بوتزاني، دستويفسكي، هيرمان ميلفين، إدوارد هوبر قرين «تشيخوف» تحديدًا، ولهذا تفسير يطول أمره، ربما أعود إليه، لهوبر لوحة شهيرة اسمها «صقر الليل» نرى فيها مقهى من الخارج، من الطريق، لكن الأربعة الذين يقفون داخله ملامحهم واضحة تمامًا، كذلك التفاصيل، أربعة في عمق الليل، ثلاثة رجال وأنثى، كل منهم ينظر في اتجاه، لا تتقاطع أبصارهم، كذا أصواتهم، بينهم رجل يرتدي ملابسه كاملة، ملامحه تشبه الصقر.

اللوحة أقسى تعبير فني وإنساني عن حالة الوحدة، الوحدة الأميركية خصوصًا، والإنسانية عمومًا، كثيرًا ما لمحت في مقاهي نيويورك أنثى ورجلاً، يجلس كل منهما بمفرده، كأنني أطالع جوهر أعمال هوبر، الفن العظيم يقربنا من أسرار الحياة، يقصر المسافة بيننا وبين ما نجهله، ما يغمض علينا، لم أشعر بغربة في العديد من الأماكن التي ارتدتها في نيويورك خاصة، والمدن الأميركية التي نزلتها، والمصدر لوحات هوبر التي أوجدت عندي نوعًا من الألفة المستعصية على التفسير، تذكرت نزولي موسكو أول مرة عام ستة وثمانين، وصلنا ليلاً، خيِّل إليَّ أنني طالعت هذه الوجوه، تلك النواصي، العابرين للتقاطعات، نعم رأيتهم في النصوص الأدبية الكبرى التي أطالعها منذ صباي المبكر، عرفتهم قبل أن أراهم، لم أعرف المظهر فقط، إنما نفذت إلى أعماقهم من بعد.

إذن صقر الليل هي مرجعيتي البصرية للمقهى الأميركي، اتجهت إلى المدخل، ثمة مناضد لكنها مشغولة، ما من مكان فارغ، لمحت مقعدًا مرتفعًا، اتجهت إليه، وضعت حقيبتي فوق الأرض ما بين مقعدين، واجهت البار، أصبحت مع أحد الجالسين في الوضع نفسه الذي ألمحه دائمًا، تجاورهم لكن كلاًّ منهما يتطلع إلى الأمام، إلى التليفزيون الذي يتوسط أرففًا متوالية، فوقها كل ما نتخيله من أنواع المشاريب، بعضها أعرفه، معظمها لم أره من قبل، المنضدة المرتفعة ممتدة، يقوم على الخدمة ثلاثة، منهم سيدة متقدمة في العمر، ترتدي ملابس بيضاء، لها حضور أمومي، تتحرك بتؤدة، تقدم الأطباق، تصب المشاريب، انحناءتها أيضًا تستدعي إلى ذهني أوضاعًا اختص بها هوبر.