
فرد عضلات صدره إلى الوراء، ورسم نصف ابتسامة على وجهه ومشى يختال أمامنا كالطاووس، مزهوا بريش شبابه ووسامته، وما إن أحس بنا حتى صوّب عينيه تجاهنا، وأسرعنا كمخبرين لفك رموز إلى أين يرمي نظراته، فلعلها تكون موجهة لواحدة منا، واستقرت كل العيون عند نسيمة الطيبة، هي إذن من خصّها باهتمامه من دوننا، التفتنا جميعنا مرة واحدة إليها، لنفاجأ بوجهها وقد تحول إلى قطعة طماطم حمراء من كثرة خجلها، ومددت يدي إلى صدرها لأجس نبض قلبها ودقاته، فنهرتني صديقتي المتزمتة: «ما قلة الأدب هذه يا سعاد؟، ألا تحترمون أية خصوصية؟»، «ماذا قلت خصوصية؟، اسمعي يا مريم تقول خصوصية، أأخيرا أصبح لنسيمة خصوصية، البنت تحتاج لحماية وإسعاف فوري قبل فوات الأوان»، وبدأت أدندن بمقطع لأغنية: «عمري ما شفته، ولا قابلته وياما ياما شاغلني طيفه...»، ضربتني مريم على رأسي:«أتحفظين أغاني لا نعرفها من ورائنا!»، «لا، هي أشياء من طفولتي، التي قضيتها بين أختي الكبرى وابن الجيران، وأغاني وردة الجزائرية»، «كيف ذلك أخبريني؟!»، قالت مريم مظهرة فضولا حماسيا غير عادي، وأعتقد أنه داخل كل واحد منا شيء شبيه بهذا الفضول، وهو رغبتنا في معرفة قصص عن الحب، وكيف عاش ويعيش الآخرون عذابه، نسيمة لم تكن مهتمة بنا، كانت غارقة في عالم آخر بطله هذا الطاووس، وفي لمح البصر أسرعت الخطى بعيدة عنا، لتلتقط ورقة رماها هو على الأرض، وهمست لصديقتي: «يا مريم أترين ما أرى إنها مغامرات السندباد مع قلبه ستبدأ، لنقرأ قريبا على نسيمة السلام»، نسيمة من خجلها لم تشفِ رغبتنا في المعرفة، رغم أنها كانت تحترق، سلمت على كل واحدة منا وغادرتنا بسرعة، قالت مريم: «انظري إلى قليلة الحيلة، إلى أين ذهبت الآن؟ لم أكن أتوقع ذلك منها، آه، لو يضبطها والدها لذبحها كخروف العيد»، قالت المتزمتة: «اتقوا ربكم واتركوا أعراض الناس في حالها؟»، قاطعتها ثائرة: «هل فطرت جيدا اليوم لتستوعبي ما تقولينه لنا الآن، من نبش الأعراض أو ذكرها؟، هي صديقتنا قبل أن تكون صديقتك، ومصلحتها من مصلحتنا، لا تتدخلي من فضلك مرة أخرى!»، عانقت محفظتها وتركتنا غاضبة، نحن تلميذات ثانوية ابنة الخنساء، والسنة ثانوية عامة وأية «زلة قلب»، نعم أقول «زلة قلب»، قد يضيع من أمامنا كل المستقبل في أن نحيا كرماء كالآخرين، فنحن في سنة حرجة علينا أن ننجح فيها جميعا وبتفوق، لأننا وبكل بساطة ممن عليهن أن يحفرن الصخر ليصلن، وأي حب عابر لا نحتاجه الآن، فنحن لم نولد بملعقة ذهب في الفم، وعائلاتنا لا تفترش الحرير وتسافر سنويا في إجازة، بل قليلا ما تحصل واحدة منا على مصروف أسبوعي، أنا مثلا، عليَّ أن أبرمج نفسي في جدول أبي مرة واحدة وسنوية، فالكساء بالدور في عائلة تتكون من أحد عشر نفرا، ولطالما خجلت في طفولتي وأنا أرتدي نفس الفستان أو القميص طيلة السنة، قبل أن يصدروا قرارا بتوحيد الزي المدرسي، أخرجتني مريم من توهان العقل هذا بسؤالي مرة أخرى: «ما قصة وردة الجزائرية وأختك وابن الجيران؟»، «اتركيني الآن من السؤال، ليس لدي أي رغبة في الإجابة، نلتقي غدا، أتمنى ألا تُضيع علينا أستاذة العربية الحصة غدا مجددا، لست أفهم ما إن تتوظف بعض النساء، أول ما يفعلنه في البداية هو الزيادة في النسل، كدرع يحمي أداء مهمتهن، والله لو تركوني عليهن لأجلستهن كلهن بالبيت أو سنّ شرط، أولا سنتا عمل متواصل وبعد ذلك...»، «أوجعت لي رأسي بالفلسفة الكذابة، مع أي حزب أنت؟، نحن ننادي بعدم تزويج القاصر في سن طفلة، وأنت تريدين إجلاسنا بالبيت، اذهبي تصحبك السلامة»، نسيمة الطيبة لم نرها من يومنا هذا، وبدأت الشكوك تراودني بأن الطاووس وراء ذلك، وفعلا انتشرت الشائعات تؤكد هروبها معه، وتذكرت قصة أختي الكبرى وابن الجيران ووردة الجزائرية، لقد أحبت أختي ابن الجيران لدرجة العمى، ولو لم تزوجه عائلتي لها لكانت هربت كنسيمة، عائلتي وقفت من الأول ضد رغبة أختي؛ لأنه وببساطة، ابن الجيران يفتقر إلى حسن دين وخلق، بالإضافة إلى أنه عديم مال وعمل، لقد تزوجها بالأماني الكذابة التي كان يطربها بها، وبأشرطة الحب لوردة الجزائرية، لو كانت ركزت في اختيار شريك حياتها فقط على الدين، كان سيرزقها ربها من حيثُ لا تحتسب، ولن تشحت في كل وقت بأولادها لدى العائلة، بخصوص حفظي لأغاني وردة، لقد كنت لا أسمع في غرفتنا سوى أغانيها في مسجل صغير، وأنا طبعا كنت ساعي بريد أختي، الذي يأتيها بهذه الأشرطة، كلما أرشاني ابن الجيران ببعض الملاليم، وأنا في طريقي إلى المدرسة، نسيمة كان علينا أن نعيدها، بأي قوة على الأرض، إلى المدرسة، حاولت الاتصال بوالدتها التي أكدت لي أنها أودعتها عند خالتها، إلى حين تهدأ ثورة أبيها، وذهبنا إليها عند خالتها ونحن جماعة تصحبنا تلك المتزمتة، وما إن رأتني حتى عانقتني باكية: «أتعرفين يا سعاد قليل من الحب يكفي، لقد أضاعني، ولن أغفر له»، «لا يا ابنتي من قال إنك ضائعة، هل لمن لديه أصدقاء أمثالنا ضائع، نجاحك هو انتصارك على الضياع الذي تشعرين به، عليك أن تعودي للثانوية، وانسي كل شيء، حتى والدك، نجاحك هو الذي سيهدئه و..»، وقاطعتني مريم بخبث مراهقين: «ولا تنسي طبعا أخت سعاد الكبرى، وابن الجيران، ووردة الجزائرية، وأنه قليل من الحب يكفي»، وهكذا أخرستني اللعينة وبدهاء عن الكلام المباح.