mena-gmtdmp

لنرقص إذن


يدي وذراعي الممدودتان تقودان يدك وذراعك الممدودتين، هذه رقصة التانجو، وقدماي وقدماك ترسمان مثلثات، على أرض بعيدة تماما عن أمان اليقين الرياضي، هذه رقصة الفالس وحولنا شباب يتقافزون في رقصات مليئة بالنشاط والمرح والصحة الجيدة، وأكثر ما أخافه هذه الرقصات.

إن كانت قدمانا أنت وأنا وقورتين تحسبان الخطوة وتتقشفان في لمس الأرض، فهؤلاء المجانين من صغار السن والعقل يضربون الأرض بمنتهى القوة والسرعة والعشوائية، إذن ففيهم قبل غيرهم يكمن خطر انفجار اللغم.

ستقولين لي إن الرقص بقواعد الهندسة يستوي، أمام قانون الصدفة، بالتقافز الطفولي، حتى لو كانت فرصة الانفجار في الحالة الأخيرة أكبر، فلنرقص إذن ونغمض أعيننا وننسى الوجود، لنرقص الرقص الذي نجيده، الذي تعلمناه في شبابك وشبابي، ولنترك للأطفال رقصهم الجنوني، فما دام الموت أو الجراح يهدداننا جميعا في أية لحظة، فمن القسوة أن نفرض قواعد رقصة قديمة على أجسادهم وأرواحهم الحيّة، وأقدامهم النزقة.. الكل من حقه أن يتحدى الموت أو تمزق الأعضاء بالطريقة التي تفرحه.. حتى يحدث الحتمي ونحن في نشوة..

أعلم أنك ستقولين هذا، فقد قلته من قبل مرارا.. وأنا سأقول:

نعم، فلنرقص إذن، يدي وذراعي الممدودتان تقودان يدك وذراعك الممدودتين، لنلمس الأرض بمثلثات حذرة، ولنغمض أعيننا، لا خوفا بل نشوة، ولنحمد الله على ما منح الإنسان من قدرة على الفرح.

نعم، أنت على حق.. الأولاد من حقهم أن يفرحوا بطريقتهم، حتى إذا تفجرت الأرض من تحت أقدامهم، فانتظار الموت أشد قتلا من الموت نفسه.

نعم، لنرقص، ولننس التساؤلات السخيفة: لماذا ولدنا في حقل ألغام؟ من زرع الألغام تحت أقدامنا؟ ولننس أيضا أولئك البارعين في الرقص، الممتلئين بفرحة الوقور، المحبين الرقص بشهادة الميلاد والوفاة وتصريح الدفن، الذين كان حبهم مقتلهم.. ولنتساءل – ونحن نرقص – أليس أجمل الموت ما يأتي ونحن نمارس أجمل ما في الحياة؟

إن الذي يعطي اللغم وجهه المخيف أنه بلا منطق، ينفجر بالصدفة، فيختطف الإنسان من حضن الحياة ودفء الحب والمحبوب وأنس الأصدقاء والأهل.. هذا هو المخيف في أن نحيا على حقل ألغام.

لكننا إذا تأمّلنا خوفنا، والذي يثير هذا الخوف، فسنكتشف أن اللغم رحيم؛ لأنه لا يمنحنا رحمة العذاب الطويل والذبول المتوغل ببطء، والهدوء القاتل حتى يأكل قلب الوردة، اللغم رحيم بنا حين نرأف بأنفسنا وننسى أنه تحت أقدامنا، فنمارس الرقص، ونترك أقدامنا تعيش اللحظة.

لنواصل الرقص إذن، ونسأل الله أن نرقص حتى الموت، ولنشكره على أنه منحنا القدرة على الحياة في حقل ألغام، القدرة على اعتياد الخطر واستئناسه والتعايش معه، لنحمد الله على أننا لا نعيش في البيوت، نتفتح بهدوء لنذوي بهدوء، ويذهب بعضنا إلى الرقص، جماعة ترقص بحمق وجماعة بفتور، إنها أقدام لا تعرف لذة الانتصار، ولو مؤقتا، وأيد لا تدخل فم التمساح المفغور لتنتزع منه حق الحياة.

ستقولين: أنت على حق، لنرقص إذن كما نرقص كل ليلة، يمناك على خصري، وفي يميني يسراك، وأقدامنا ترسم طريقا مقترحا لحياتنا، نعلم أننا لن نسير فيه لنهايته.

لنرقص، ولتنفذ أقدامنا تعليمات الإيقاع لنستمع للنغم، لا للخوف، حتى ولو كانت أية خطوة لي أو لك تخرج من القمقم ذلك الجني الذي زاد من شراسته طول حبسه..

لنرقص إذن.