كانت لي في
الآونة الأخيرة، عدّة لقاءات مع طلاّب من المعاهد الثانوية.
يقرأون رواياتي وقصصي.
وتكون القراءة من بعض برنامج يُفرض عليهم كي تستقيم لغتهم، إذْ يندر أن تتوجّه الأجيالُ الطالعة، في أيامنا هذه، نحو القراءة، وخصوصاً حين تكونُ باللغة العربية.
<<<
وأنا أحبُّ هذه اللغة الأمّ؛ وهي تُكوِّن جداراً معنوياً يردفني بالقوّة كلما وهنتْ قوّتي، ويمدُّني بالثقة والعزم.
لذلك، ولأسباب أُخرى كثيرة، أَوْليْتُ الشبابَ اهتماماً كبيراً عندما كتبتُ قصصاً وروايات، مُوجَّهة اليهم، وتُراعي مستوى معرفتِهم من حيث الموضوع أو تبسيط اللغة والأسلوب. وتظلُّ مختلفة، لغةً وأسلوباً، عن سائرِ أعمالي.
<<<
ولأنه يستحيلُ عليَّ لقاءُ الطلاب في مدارسهم، فقد اقترحتُ بديلاً، كي أُلبّي طلبَ أساتذتهم، أن يقوموا هم بالزيارة.
وفي معظمِ الأوقات، يتمُّ اختيارُ مندوبين عن كل صفّ، وينقلون الحوارَ مُسجّلاً بالصوتِ والصورة.
<<<
ويكونُ الطلاب، أحياناً، من المعاهد الرسمية، أيّ الحكومية وهي التي لا تتقاضى أقساطاُ مالية لقاءَ التدريس. وطلاّبُها من أبناء الطبقةِ العاملة، إن في الأريافِ أو المدن.
بينما يجيءُ طلاّبُ المعاهدِ الخاصّة من طبقةٍ ميسورة، وقادرة على دفع الكلفة المرتفعة للدراسة.
لكن ما يجمعُ بين الفئتين هو ركاكةُ لغتِهم العربية، قراءةً وتعبيراً.
وإنْ سألتهم عن السبب تأتي الإجابة الفورية بأنهم يستقون المعلومات والمعارف من شبكة «الإنترنت»، وتكون في معظم الأوقات، بلغاتٍ أجنبية.
<<<
أتكلّمُ عن هذه التجربة في لبنان. وأظنُّ ان الأجيال الطالعة، في معظم البلدان العربية، لا تختلفُ كثيراً عن هذه الحالة، ممّا يستدعي القيام بحملاتِ توعية على هذا الصعيد.
بل ان بعض المؤسساتِ المدنية التي تشعُر بهذا النقص، تقوم بمحاولاتٍ لافتة، كما فعلت «مؤسّسةُ الفكر العربي» وجمعية «فعل أمر» عندما دعتا الى إقامةِ أوّل مهرجانٍ للّغة العربية وفي وسط شارع الحمرا الرئيسي في العاصمة بيروت.
<<<
في أحد اللقاءات مع الطلاب خطر لي أن أطرحَ سؤالاً يتعلّقُ بالأسرة وموضوع المطالعة؛ إذْ أعتبرُ البيتَ الحضنَ الأول للتربية، ومن بعدُ تأتي المدرسة.
ولم أُفاجأ عندما اكتشفتُ ان نسبةَ الأُسَرِ التي تقرأُ ضئيلة.
<<<
وكنتُ دائماً أخاف على مجتمعنا التقليدي من تلك الهجمةِ الجارفةِ للتكنولوجيا العصرية، إن في اللغة أو السلوك الإجتماعي؛ إذ لم نُعطَ الوقتَ الكافي، أو المعرفة، كي نهضمَ هذا التحدّي الجديد.
أقولُ هذا لا عن تزمُّت، أو كي أقف في وجه التقنيات العلمية، والتي لا بدّ منها، ولا غنى لنا عنها إذا شئنا مواكبةَ العصر... لكن من الضروري ان تكونَ متلازمةً مع الفهم والشرح، كي تدخل في معادلات وجودنا، ونُفيد بها ومنها.
<<<
وأعود الى ملاحظاتٍ سجّلتُها في خلال تلك اللقاءات، ومنها الأسلوب المعتمَد في تدريس اللغة العربية، والإيحاء الى الطلاّب بأنها ليست المادةَ العلمية الأهمّ. بينما دعوتي كانت، ولا تزال، الى أنَّ إتقانَ اللغةِ لازمٌ لدعمِ الفكر، وبناءِ الثقة بالنفس.
وحتى لو كان الطالب منصرفاً الى التخصّص في العلوم أو الرياضيات، فإنه سيحتاج دائماً الى التعبير عن فكره وعلمه بواسطة اللغة. ومن الأجدى له أن يُتقنَها.
كذلك لفتَني لدى أحد المعاهد، طموحُ الأساتذة إلى إدخال اللغةَ في ذهن الطالب، قسراً، عن طريق فرضِ كتبٍ تتجاوزُ مستوى إدراكهم، إن كان قصّةً أو رواية. وهذا من شأنِهِ أن يعطي نتيجةً عكسية. ويتسببَ في إرباكِ التلميذ بدلَ مساعدته.
<<<
أما النقطةُ التي يلتقي عندها العديد من المدرّسين، فهي أسلوبُ التلقين الذي يعتمدونه. وكأنما عقلُ الطالب إناءٌ فارغ وهم يسعون الى ملئه. بينما يدعو أتباعُ الأسلوب الحديثِ في التربية، الى اعتبارٍ مختلف حين يدفعون الطلاب الى البحث، والتجربة، والسعي، بأنفسهم، الى حلِّ ما يُواجهُهُم من مشاكل.
<<<
وهي ملاحظاتٌ هامشية، أسجّلها، بدافعِ غيرتي على لغةٍ جميلةٍ أحببتُها، ويُشكّلُ إتقانُها تحدّياً للكبار كما للصغار.