طويت ولملمت وأحجمت، فالأمر يحتاج
إلى تفسير، وإني آتيها به، لكنني مرجئ ذلك الآن، فما أحوجني أن أعرف عنها، قالت إنها
الابنة الوحيدة لعالمين، الأب تخصص في الكشف عن أساليب لعلاج السرطان، أما أمها فأستاذة
اقتصاد، أما هي فمدرسة للغة الإنجليزية، بدأت تتعلمها منذ عمر مبكر، تتقنها تماما،
إنها تعيش مع زوجها في مسكن من حجرتين، تعد الطعام، ترتب أمور البيت بنفسها، أحيانا
يشاركها أيام الإجازات، تكف لحظات، تنظر إلى الأمام، كأنها تخاطب نفسها، إنه رفيق،
لكنه شاب صغير، صغير جدا، لا تفوتني نبرتها، حيرة وأسى.
ألتزم الصمت خشية سوء الظن، فالأمر هنا حرج، تلتفت صوبي، والتفاتاتها يا أخي مفاجئة، حادة، ولكنها رحبة، تلقي في روحي دعة، ويطيب لنظري الإقامة عند جانب وجهها، إذ كان له جمال في ذاته يختلف عن حضور ملامحها إذا تطلعت إليها بالمواجهة، تقول: إنها كانت في الثامنة عشرة عندما رآها، ويمّم شطرَها، صباح كل يوم تفتح الباب فتلقاه قد نثر الزهور عند مواطئ قدميها، هزها الأمر، أحبت وجده بها، وعشقه لها، خاصة أنه ثابر وداوم غير أنها بعد عيشهما معًا تحت سقف واحد، بدا شابًّا أكثر مما يجب، يكبرها بعامين، إلا أنه صغير، صغير جدا.
هنا أردت أن أحيد، فبقدر سروري أنها تفضي إليّ بدقائق، بقدر حذري وخشيتي، أن تنتبه في لحظة فتدرك أنها تجاوزت حد الأمر معي، هذا حال دقيق، لابد أنك مدركه في خصالي، استفسرت عما إذا كانت سافرت للخارج، قالت إنها لم ترحل، وإن أمامها جولات طويلة في وطنها الشاسع، عندما يستدعونها لمرافقة أحد الوفود، إنها المرة الأولى التي ترحل فيها إلى بخارى وسمرقند، لكم قرأت عن عمارتها، وأبنيتها القديمة، لكن أن تقرأ وتسمع ليس كأن تشهد وترى، إنها تود الرحيل إلى سيبيريا، سألتني فجأة، هل رأيت سيبيريا؟ قلت إنها المرة الأولى التي أجيء فيها إلى البلاد، ابتسمت، وكيف رأيتها؟ قلت لها إنني اطلعت منذ عمر مبكر على تضاريسها الروحية، عرفتها من خلال تولستوي وتشيكوف، وتورجنيف وجوركي وساليتكوف شدرين وشولوخوف ومايا كوفكس، قالت بدهشة: قرأت لكل هؤلاء، قلت: وآخرين كثُر، كدت أفيض لكنني لزمت الصمت فجأة، وفي نفس اللحظة زلت هي بنظرها عبر النافذة الصغيرة المستديرة، لمحت الغيوم هناك، بعيدة، أما الأفق الدائري فبدا أزرق لا يتحرك.
كنا يا أخي أيدك الله، كمن يدوران حول بعضهما، يقتربان ثم يبتعدان، يدنو كل منا من صاحبه، حتى تخال أن الاندماج موشك، وأن الامتزاج سيتحقق، وفجأة تنأى المسافة، تصبح قصية، فكأن كلا منا يرغب التأمل عن بعد؛ حتى تبدو الرؤية في شمولها قبل الاقتراب من جديد، تأملت شعرها المنسدل، النافر هنا وهناك، وكأن ألق عنقها يضوي من خلال سواده المشوب بحمرة نحاسية، فجأة باغتتني بإحدى التفاتاتها تلك، غير أنها اتجهت صوب يدي، فأمسكتها وبسطتها، وراحت تحدق مليًّا في خطوط كفي التي استلقت منبسطة، مباحة لنظراتها المدققة، لم تقل شيئًا، بقيت صامتة، وعندما بسطت كفها بغية المقارنة، اندفقت أصابعي حتى سرى إليّ مساس النبض في أوردتها.