من رسائل الصبابة ـ 4 ـ


بدت شاخصة، متطلعة، بينما دقات قلبي تهرع في إثر بعضها، كبحت زمامي، فهذا أقصى ما يمكن أن يصدر عني، وثمة جمع على مقربة، بعضهم يسمع ويرى، لم أفارق يدها، إنما تخللت أصابعها بأصابعي، بدت ملامحها أقرب إلى الطفولة، فكانت تطلعني على جانب لم أره من قبل، إذ ترتد إلى سنيّها الأولى، لا أدري متى قالت لي إنها، تسبح مرتين في الأسبوع، لم تنقطع أبدًا عن عادتها تلك، قالت إنها تفضل السير بمفردها ساعات في الغابات الممتدة المحيطة بالمدينة، وعند لحظة بعينها لا يمكن تحديد موقعها, اتصلت الحميمية، وانتفض توقٌ عندي، وكانت بي أشواق مجهولة، لم أعِ منها إلا حزني على مفارقة اللحظة، ووجدي الذي سيعقب انقضاءها، وتخيلي الفراق الآتي، فطفت عندي ألحان عتيقة، وطلبت منها أن تصغي، فمن كان مثلها لابد أن يخاطب بالغناء، سألتها عما إذا كانت تعرف آلة القانون، ارتسمت على ملامحها علامات استفهام، فرحت أشرح لها مفصلاً، موضحًا، رفعت أصابعها.

 

 

السانطور

قلت إنه يشبهه، غير أن استخراج أنغامه يكون بالأصابع، وليس بالمطرقة، قلت لكم وددت لو بصحبتي آلة القانون التي أتقن العزف عليها، أقسمت لو أن ذلك متوفر لي، لوقفت في هذا الحيز الضيق، وهيأت مجلسا لي، ولم أكلمها إلا عزفًا، ولما صرحت بهذا كانت الرغبة عندي مكتملة، فرحت أرسل أنغامي بفمي، محركا أصابعي مستعيدا بخيالي مواقع الأوتار، وهكذا كنت العازف والآلة معا، حتى أتممت على مسمع منها سماعي رصَد، كنت أتقنه، وصار سلواي إذا ما كواني وجدي، ولفتني وحدة، وطحا بي شوق في الضلوع عاصف، أصغت مقتربة مني، وهزت رأسها مرتين، فتضاعف وجدي، فنوعت، واسترسلت، وتنقلت ما بين حجاز كار كرد، ومقام الصبا، وهذا ما يجذب ميلي، فلما فرغت قالت بآهة فيها إشفاق:

هذا جميل، لكنه شجيّ، حزين!

اعتدلت حتى واجهتها، قلت من كان مثلها لا يخاطب إلا شعرًا، ولابد من إيجاد لغة تخصك، فليس مثلك مثل، تواجهنا، دنوت، فكانت جهات وجهها ملاقية لجهاتي، استدعيت من خزائن ذاكرتي شعرًا، فأنشدتها ما احتوى حالي، وكان إشعاع من عينيها يوافيني بمدد فيتبدد تعبي، وجسور تمتد من فيضها فيتفجر الماء من نبعي، فأصير إلى حركة وسكون، أصبح اختلافًا وائتلافًا، أبصر دقائق كانت قد غابت عندي، ما بين الظل وأصله،  أرصد ما بين الشيء والشيء، وكنت غير غائب عن هيئتها، عن هيئة جلستها، عن هيئة إطلالتها، عن هيئة تحولها من جانب إلى آخر، عن هيئة إصغائها، عن هيئة الجواز إليها والعبور، وعند هذا الحد يا أخي كنت كمن يودع البلى، فيصير أمره إلى ما لا يتوقعه يومًا، وما لم يخطر على قلبه، ولا جاس بخاطره ومن ذلك دمعي الذي بذلت الجهد لأخفيه، فقد كان النداء ينمو عندي ويشب داخلي، أن أجثو وأدنو، لكن ما زال الأوان بعيدًا، والحين قصيًّا، فافهم يا أخي ما حجبته، وما لم أقيده لعلك يوما شافعي.