mena-gmtdmp

هبة القواص نجمة الأوبرا تظهر وسرعان ما تختفي...



فن الأوبرا الذي يظهر أحياناً في بيروت على بعض مسارحها أو في بعض مرابعها يجعل الفكرة جذّابة. فيحلو لبعضهم الانصراف عن يومياتهم ودخول تجارب تميّزهم وتجعلهم من النخبة بينما يتركها آخرون للصدفة. إن وجدت لا بأس، وإن غابت فالحياة فيها انشغالات كثيرة خصوصاً في عالمنا الثالث الذي نأى بنفسه عن كماليات تعتبر عنواناً للرقي ومرآة لتاريخ الشعوب المتحضّرة.

إلا أن المغنية الأوبرالية هبة القواص لم تتراجع يوماً منذ أن أعلنت عن موهبتها كعازفة بيانو ومؤلّفة موسيقية وقائدة أوركسترا ومغنية أوبرا... معتمدة نصوصاً شعرية حديثة تحاول تطويعها، وإن عاكستها أحياناً حروف الكلمات العربية العصيّة على الامتثال، لتحتاج لجهد مضاعف كي تتناغم في إطار سمفوني انسيابي كما هو في الشكل الموسيقي العالمي المتعارف عليه.

مشاهير الأوبرا يختلفون عن النجوم التقليديين، فهم أسياد ساحاتهم وملوكها، وقد لا يلتفت إليهم المارّة إلا باستثناءات قليلة. أصواتهم جزء أساسي لحركة الأوركسترا التي تشكّل في عالم الموسيقى أعلى درجات السمو الفني الكامن في الأوبرا لتأتي الشهرة في درجة ليست أولوية.
 
اللافت في تجربة الفنانة هبة القواص حرصها وانشغالها الدؤوب في عملية البحث والتطوير والكفاح لإيجاد حالة من الانفعال والتفاعل مع موهبتها المحاصرة بحالة من "الغوغائية" الفنية المنتشرة، والمستأثرة بحجم السوق الغنائية. فلا يمكن لمغنية مثلها أن تقدّم حفلاتها إلا إذا توافرت شروط تبدو أحياناً مستحيلة من الناحية الإنتاجية، هذا في حال أراد المغني أن يرضي روحه وذوقه الفني، ما يدفعها أحياناً للذهاب إلى أوكرانيا للاستعانة بأوركسترا محليّة لتسجيل بعض أعمالها أو لتقديم حفلات في بعض المدن العربية القادرة على تغطية نفقات هذا النوع من الفعاليات، كإمارة أبوظبي التي استضافت القواص في أكثر من مناسبة إلى جانب عازفين عالميين وفنانين يؤدّون هذا اللون الأوبرالي.

في إنتاجها الأخير الذي حمل اسم "لأني أحيا"، تسهم هبة بنشر مجموعة من الحالات الموسيقية منها الصوفي والرومانسي والتقني الذي تستعرض من خلاله قدراتها التحكّمية في أوتار صوتها الذي لم يكن بحجم تجاربها السابقة... ولعلّ حداثة الأشعار وخلوّ بعض القصائد من الإيقاع الشعري وافتقاد الأوزان التي تساعد في خلق الحالة اللحنية، جعل العمل باهتاً مقارنة بقصيدة الحلاج اليتيمة في العمل.

يا نسيم الريح قول للرشا
لم يزدني الورد إلا عطشا
لحبيب حبه وسط الحشا
لو يشا يمشي على خدي مشى
روحه روحي وروحي روحه
إن يشا شئت وإن شئت يشا

"يا نسيم الريح" قصيدة تعامل معها الكثير من الموسيقيين العرب، وكان لمارسيل خليفة قراءة مختلفة لهذه القصيدة عمّا قدّمته هبة القواص. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن عمل خليفة أكثر قرباً من الجمهور وأكثر ارتباطاً من الناحية الأندلسية، وارتباط اللحن بروح القصيدة القادمة من أزمان كان الشعر فيها بجودة الأوبرا الغربية.

من أغنيات العمل: "بديت الحكاية" للشاعرة ندى الحاج و"تبقى لي" للشاعر أنسي الحاج، "اسرى بقلبي" للشاعر والسياسي عبد العزيز خوجة، "يا نسيم الريح" للحلاج قدّمتها بروح شرقية وذلك من خلال إبراز آلة العود المرافقة للأوركسترا، وهذا لم يخرج الأغنية من كسلها، وأغنية "يديك نجوم الدنيا بعينيك" لندى الحاج...

يبقى للمغنية اللبنانية القواص حق اللجوء إلى عالمها الرحب، عالم الموسيقى، وحق الوقوف في وجه الابتذال وإن غاب أحد شركائها في هذه التجربة، وليد غلمية الذي ساهم في توطيد العلاقة بين الأوركسترا الوطنية وبين موهبة هبة الفذّة على المستوى العربي... وميزة الموسيقار وليد غلمية أنه راعى ذوق الجمهور ولم يأخذه بعيداً في غياهب الموسيقى المقطّرة التي تحتاج "لمترجم" يشرح للسامعين معنى الحركة والإيقاع والسكون. قدّم غلمية أعمالاً إيقاعية وكلاسيكية محافظاً على الأصول الشرقية التي تدخل الروح على مهل... وهنا لا بد من الاعتراف أن ذوّاقة الفن الكلاسيكي في عالمنا العربي هم أقلّية أمام ما هو سائد، مقابل التراكم الحاصل في الغرب وتوفّر المؤلفين والعازفين وقادة الأوركسترا والمسارح الخاصة التي تتيح ظروفاً مؤاتية لهذا النوع من الموسيقى مما يجعلها أقرب إلى الجمهور وإن كانت أحياناً تعزف في الحدائق العامة أو في بعض الشوارع التي ينجذب إليها المارّة في أوروبا.

تبقى هبة القواص نموذجاً وموهبة فذّة في زمن النقيق الهادف المرتبط بحالة الفوضى التي تنتج مطربين كما تفعل مزارع الدجاج الحديثة، "يفقس" أكثر من عشرين منهم يومياً وسرعان ما يصبح الصوص فروجاً.

يا ما في الفن ظالمون ومظاليم...
أغنية ضاربة وتنتهي معاناة المطرب أو المطربة وتستبدل الأبواب التي يدخل منها الفنان وتستبدل السيارة ويزداد عدد المرافقين والمهلّلين والمزيّنين والحلاقين والصحافيين الذين يصفّقون ويصطفّون لأخذ حديث من الفنان النجم، المطرب، صاحب الصوت الرخيم، ملك الأغنية الشعبية، والكلاسيكية، والطربية، وكل هذه الألقاب بانتظار هذا النجم الخارج من جحيم الانتظار في مطابخ المطاعم، ينتظر "نِمرته" ورضا صاحب الحفل الذي يمكنه طرده واستبداله كما يتعامل مع ملابسه وحذائه.
إلا أن هذا لا يتطابق والفنان النجم صاحب الأغنية الضاربة. فرصة صغيرة، نغمة تجذب السامعين، وتنتشر الأغنية كالنار في الهشيم. ولكن هناك من هم غير محظوظين في هذه اللعبة، وبحثت عن أحدهم صاحب أغنية مشهورة إلا أنه غير منتشر كباقي نجوم الأغنية الضاربة... فصاحب أغنية " ليكي ليكي ليكي/من مدة عيني عليكي" اشتهرت وتركت صاحبها يعاني في البحث عن ألحان جديدة. مروان الشامي صوت وحضور مسرحي لا بأس به، يحمل صوته الكثير من الخصوصية التي تخوّله للانتقال إلى صف النجوم الذين يجيدون الغناء. صدرت له حديثاً أغنية جديدة بعنوان (شو هيدا يللي قبالي/ وجك والله قمر الليل). يعتمد تسجيل الأغنية على طريقة "اللايف" كما تعزف في حفلاته. وهذه تجربة سبقه إليها الفنان الياس كرم الذي يحمل نفس المواصفات وسرعان ما غيّبه الإعلام ليبقى صوته في مكان ما في الذاكرة... إنما يختلف الوضع قليلاً في المحروسة مصر، فشريط أبو الليف حوّله لنجم تلفزيوني وباتت أخباره مطلوبة للمجلات الفنية. وزاد من ذلك ارتباطه وانفصاله عن الفنانة علا رامي، وذلك ينطبق قليلاً وبطريقة مختلفة على صاحب أغنية "العو" حيث سمعنا (النباح) ضمن أغنية فتساءل الجميع عن صاحب هذه "الأغنية" وإذ به فنان شعبي يدعى ذياب.
يقول الفيلسوف برنارد شو: أيها الفنان إن جاءتك الفرصة فاغتنمها. كثر هم مظاليم الفن، نجدهم في المقاهي والمطاعم، نجدهم في طرقات أوروبا، في الزوايا الباردة يقدّمون فنهم لقاء القليل من الخبز، فيما آخرون ينعمون بالملايين من الدولارات لقاء ساعة ونصف من الغناء الضارب.