mena-gmtdmp

يا طير لماذا الصياح؟

رحاب أبو زيد
بعدما كتبت مقالتي السابقة، «الحنين إلى الخيزرانة»، بعث لي أحد الأصدقاء بتسجيل حديث لجلسة خاصة، بثّت على إذاعة صوت الخليج، مطلع يناير 2014، جمعت الفنانة السعودية الشهيرة، إبتسام لطفي، العائدة إلى الوسط الفني بعد غياب دام لأكثر من أربعين عاماً، وبمبادرة وفاء من فنانين، عشقوا التراث وتفانوا في حفظه؛ محاطاً بعاطفتهم، وملفوفاً بورق شفيف كورق السوليفان؛ خوفاً عليه من الاندثار ومن التشويه، هؤلاء كانوا: عبادي الجوهر، وطلال سلامة، والفنان الرقيق المنقطع عن الساحة الفنية منذ زمن، علي عبدالكريم، وكانت المفاجأة والدهشة الغامرة بجلسة طربية من الطراز الأول في صوت الكروان، إبتسام لطفي، الذي عاد وكأنه لم يغب مطلقاً؛ متمرساً شغوفاً حنوناً، وكأن السنوات لم تمرّ عليه، كما وكأن التقنية ومادية العصر الحديث لم تؤثر فيه، ولم تحد به عن الطريق! طريق الزمن الجميل. كانت الشهقات والدموع تنبع من أقصى التجاويف بالصدر مع كل موال أو مجس حجازي يتموج به صوتها، ونحن في حالة غريبة ونادرة بين الحنين والواقع؛ فعادة ما يكون الحنين للماضي المرتحل بزمنه وجماله وما انطوى عليه من ذكريات، أما أن تعيش الحنين حياً حاضراً متزامناً مع آنك وحالتك الراهنة؛ فهذا ما لم يكن في الحسبان! من أجمل التعليقات التي سمعتها، كانت بنبرة متهدجة من إحدى سيدات المدينة الكبار، وهي تقول: «يا ألله رجعتنا أربعين سنة وراء!!» صدحت إبتسام لطفي بواحدة من أشهر الأغنيات السعودية لمحمد عبده «يا حبيبي آنستنا»، التي لم تكن تخلو منها أبداً حفلة زواج، أو عودة مغترب، ثم شدت بإيقاع المجرور الشهير في مدينة الطائف للراحل، فوزي محسون، ومن كلمات تراثية في رائعتها: «يا طير لماذا الصياح.. ذكرتني بالحبايب، أسهرتنى للصباح.. كأن لك خِل غايب، أزعل إذا قلت آه.. بين الأهل والقرايب، سلطان سيد الملاح.. له سهم بين الحواجب، صلوا إذا الفجر لاح.. على النبي يا حبايب»، لم تلق إبتسام لطفي في زمانها؛ التقدير الكافي الذي تحظى به مطربة اليوم التي بالكاد يوسم رصيدها الفني بأداء ضعيف وقدرات صوتية ضئيلة وإحساس سطحي، في حين تستقبلها المهرجانات والشاشات بالحفاوة والفخامة المبالغ فيها، وتكسب ودها معظم دور الأزياء لعرض تصاميمهم وإبداعات مصففي الشعر والمكياج والإكسسوارات اللازمة، فمطربة اليوم سلعة وأداة تسويقية فاعلة ونموذجية للطبيعة الاستهلاكية المادية التي غزت تفكيرنا وأسلوب عيشنا، أما إبتسام لطفي؛ فاكتفت بنظارتها الداكنة المعهودة وطرحتها السوداء؛ لأن بضاعتها الأثمن تكمن في حنجرتها فحسب. تحية كبيرة لعودتها التي تؤكد على جذور تمددت قديماً للفن في السعودية؛ رغم فتاوى التحريم، ورغم المعارك الشرسة للقضاء عليه.