المتنبي والمرأة والكتاب

أحمد العرفج


بحكم دراستي، كان لابد أن أقرأ ديوان المتنبي كاملاً، وأستخلص منه ما يخص الانكسار والضعف والشكوى، ونظراً لهذا التوغل في الديوان، فقد سألني بعض الأصدقاء أن أرشدهم إلى قصيدة من قصائد المتنبي تكون شاملة لمعظم حياة المتنبي ونفسيته وطموحه وموقفه من مظاهر الحياة، وحين تأملت الفكرة وجدت أنها جديرة بالإجابة والتوضيح، لذلك أقول وقلبي مطمئن بأن القصيدة التي يقول المتنبي في مطلعها:
مُنى كُنَّ لي أَنَّ البَياضَ خِضابُ
فَيَخفى بِتَبيِيضِ القُرونِ شَبابُ
هي القصيدة التي ترسم معظم حياة المتنبي، للأسباب التالية:
أولاً: بيّن مكانة الأصحاب والأوطان في نفسه، وأنه نجم بين أصحابه، وليس هناك وطن يجبره على المحبة أو الإقامة فيه، حيث يقول:
وَإِنّي لَنَجمٌ تَهتَدي بِيَ صُحبَتي
إِذا حالَ مِن دونِ النُجومِ سَحابُ
غَنِيٌّ عَنِ الأَوطانِ لا يَستَفِزُّني
إِلى بَلَدٍ سافَرتُ عَنهُ إِيابُ

ثانياً: أوضح المتنبي في هذه القصيدة بأن نفسه طموحة، حتى وإن غزاه الشيب، وهذا البيت يصلح للمتخصصين في تطوير الذات والتنمية البشرية، حيث يقول المتنبي:
وَفي الجِسمِ نَفسٌ لا تَشيبُ بِشَيبِهِ
وَلَو أَنَّ ما في الوَجهِ مِنهُ حِرابُ

ثالثاً: حدد المتنبي مكانة الأسرار في نفسه، وأنها مدفونة لا تخرج إلى نديم أو لا يطلع عليها أحدٌ من جلساء سكرات الشرب، وهي حالة تشبه الفضفضة يقوم بها بعض الناس حين شربهم للخمر، وفي هذا المعنى يقول:
وَلِلسِرِّ مِنّي مَوضِعٌ لا يَنالُهُ
نَديمٌ وَلا يُفضي إِلَيهِ شَرابُ

رابعاً: بيّن المتنبي في هذه القصيدة أن علاقته بالمرأة علاقة عابرة لا تتجاوز الساعة، وبعدها يأتي الفراق، موضحاً أن العشق لا يقع فيه إلا الصغار وأهل الأطماع بوصل النساء، حيث يقول في هذا المعنى:
وَلِلخَودِ مِنّي ساعَةٌ ثُمَّ بَينَنا
فَلاةٌ إِلى غَيرِ اللِقاءِ تُجابُ
وَما العِشقُ إِلّا غِرَّةٌ وَطَماعَةٌ
يُعَرِّضُ قَلبٌ نَفسَهُ فَيُصابُ

خامساً: أوضح المتنبي في هذه القصيدة علاقته بالقراءة والكتاب، حيث ذكر البيت الذي يحفظه الجميع حين قال:
أَعَزُّ مَكانٍ في الدُنى سَرجُ سابِحٍ
وَخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ كِتابُ

سادساً: شرح المتنبي حاجته إلى كافور، وصرّح بالحاجات ونثر العتاب وكشف الخطاب، حيث يقول:
وَهَل نافِعي أَن تُرفَعَ الحُجبُ بَينَنا وَدونَ الَّذي أَمَّلتُ مِنكَ حِجابُ
وَفي النَفسِ حاجاتٌ وَفيكَ فَطانَةٌ سُكوتي بَيانٌ عِندَها وَخِطابُ
وَما أَنا بِالباغي عَلى الحُبِّ رِشوَةً ضَعيفٌ هَوىً يُبغى عَلَيهِ ثَوابُ
إِذا نِلتُ مِنكَ الوُدَّ فَالمالُ هَيِّنٌ وَكُلُّ الَّذي فَوقَ التُرابِ تُرابُ
وَما كُنتُ لَولا أَنتَ إِلّا مُهاجِراً لَهُ كُلَّ يَومٍ بَلدَةٌ وَصِحابُ

في النهاية أقول:
هذه تقريباً أهم ملامح المتنبي كما تبدو في شعره، ويبقى بيت واحد من الممكن أن يستعيره من قصيدة أخرى؛ تكون القافية فيها نفس قافية هذه القصيدة، حيث يعترف المتنبي بإدمانه على الشكوى حين قال:
ألا ليت شعري أن أقول قصيدة
فلا أشتكي فيها ولا أتعتب