المرء الكوكبي!!

أحمد العرفج

يقول المُفكِّر الروماني «إميل سيوران» -المتوفى في 1995م- في واحدةٍ من فلتات جنونه: «عصرنا سيكون موسوماً برومانسية معدومي الجنسية، بل إننا نرى منذ الآن عالماً يتشكَّل، حيث لا لأحد الحق في ادعاء المواطنة الكاملة. ففي كل مواطن من مواطني اليوم يكمن غريب قادم»..!
وإذا قُدِّر لك أن تحصل على هاتف جوال في بريطانيا، واتصلت تستفسر عن أي معلومة عن هاتفك، فما عليك إلا أن تُخبر عن رقمك السري، أو رقمك البريدي، لتحصل على كل ما تحتاج، وتُنفِّذ كل ما ترغب..!


وكل ما ذُكِر لا يستدعي العجب، إنما ما يستحق الإعجاب، ويلفت الألباب، هو صوت الموظف الذي يرد عليك، فهو ليس بريطانياً، ولا يسكن فيها، إنه موظف في شركة بريطانية، ولكنه «هندي» يعمل في الهند، أو «بنغالي» يستقر في دكا، أو «أسترالي» يتخذ من قرية أسترالية مقراً له..!
إنه عصر الشركات العابرة للقارات، فالموظف الهندي يستوطن بلده، وبجوار أهله وأولاده، ولكن عمله ومصدر دخله من شركة أوروبية، ذات نشاطات لا محدودة..!


لم يعد الزمان يتشبَّث بالمكان، بل تخاصم الاثنان، لينتصر في النهاية الإنسان.. إنه «الإنسان الكوني»، أو «المرء الكوكبي»، الذي لا ينتمي إلا للعمل، ولا يُحسن إلا لغة الشراكة، ولا يفهم إلا مفردات «التسوية»، ولا يسلك إلا سبيل «التواصل»..!
بعد أحداث 11 سبتمبر الإجرامية، أصبح من الصعوبةِ بمكان انتقال الأشخاص والأجساد، ولكن سَهُل انتقال السلع، ومرور الأفكار وثمار الاعتقاد، ومحاصيل الاجتهاد.. فهي ترحل من وادٍ إلى واد، وتمرُّ من مدينةٍ متكئة على التجمع والاتحاد..!


ولكَ أن تتصوَّر؛ أن آخر إبداعات بعض الشركات الكبرى، مثل «ميكروسوفت» و«باناسونيك» و«سانيو»، بدأت باختراع جوازات سفر خالية من الجنسية، لتحمل جنسية الشركة، فالجواز لا يحمل الديانة، ولا المواطنة ولا الدولة، لتكون جنسية الموظف، عطفاً على شركته، فيُقال جنسيته «ميكروسوفتي»، أو «باناسونكي»... إلخ!
ولا أعتقد أن العرب سيعبأون بهكذا قضية، إلا من خلال اشتغال مجامع اللغة العربية المختلفة، التي ستُضيّع الوقت في كيفية إلحاق «ياء النسب»، لبعض الشركات، مثل «توشيبا»، هل ستقول «توشيبي»، أو «توشيبوي»؟! وماذا تقول في «ماريوت»، أتقول: «ماريتي» أم «ماريوتي»..؟!


إن قضايا الشركات العابرة للقارات، وتحوُّل العالم من تسلُّط الحكومات؛ إلى منطق الشركات، أخذ في التشكُّل، وشارع في التكوُّن، لذا مِن شِيَم العقلاء، الاستعداد للحدث، والتأهُّب للفعل، حتى لا تصدمنا الوقائع، ولا يُفاجئنا الواقع..!
يجب أن نتغيَّر لكي نُغيِّر، ولن يتم هذا إلا عبر «تغذية العناوين وتحويل المفاهيم»، فلا يمكن أن نظل ثابتين، مثل «عمود كهرباء»، كأن العالم جبل جامد أمامنا..!
إن العالم يتحرَّك عبر منافذ الأسواق العملاقة، والشركات الكاسحة، ويطلُّ من نوافذ الأبجدية الرقمية، ويمر بالشبكات الطاغية، ويُصان بالهندسة الوراثية، وينتقل عبر الجوازات البيولوجية، إنه عالم التقنيات المجهرية، والمصاعد الفضائية، والهويَّات المخلَّطة، والانتماءات الهجينة.. باختصار، العالم يتحوَّل من الاقتصاد المعرفي، إلى الإنسان الرقمي، والعامل المعرفي، والفاعل الوسيط..!


في النهاية أقول: يا قوم، يجب أن نستعد لأصحاب الهويات الهجينة، والعمال المنتمين للشركات، أو كما يُسمِّيهم المُفكِّر الفرنسي «جاك أتالي»: (البدو الجُدد)، أو كما أُسمِّيهم «الغجر الجُدد»، فالعالم -كما يبدو- بدأ غجرياً، وسيعود غجرياً، فطوبى للغجريين..!
إن العالم اليوم يعود إلى غجريّته بصورتها الأخَّاذة، المُشعّة بالفوضى المنظمة، أو التنظيم الفوضوي.. ومن الاستحالة أن يدّعي أحدٌ «المواطنة الكاملة»، كما يقول المُفكِّر الروماني «إميل سيوران»..!!