آذان الجدران

شهرزاد


هل للجدران آذان؟
نعم للجدران آذان كثيرة، وكنت في طفولتي تلك الأذن الصغيرة التي كانت تلتصق بالجدران؛ كي تنصت إلى حكاية من مجموعة الحكايات التي كانت تدور خلف الأبواب المغلقة، والتي يحرص أصحابها على أن لا تتجاوز حدود الجدران..


كانت تلك عادة سيئة قد التصقت بي في الثامنة من عمري، حين تسلل إليَّ صوت صراخ جارتي بينما كنت ألهو بدميتي القطنية خلف جدار غرفتها، لأخوض يومها ولأول مرة تجربة الإنصات لحكايات الجدران..

فحين وضعت أذني على الجدار، اكتشفت أنه كصندوق الدنيا، ذلك المسرح الصغير المتنقل الذي كنا نراه في التلفاز، ففي ذلك اليوم اكتشفت أن في الجدران مجموعة من الحكايات، ومجموعة من الأحداث، ومجموعة من الأسرار.

فمن خلف الجدران أنصتُ بحذر إلي صوت جارتنا وهي تواجه بالبكاء تلك الكلمات الجارحة التي تفوه بها زوجها في لحظة غضب.
ومن خلف الجدران أنصتُ إلى مكالمات ابنة الجيران، فاكتشفتُ تلك الحكاية النقية التي جمعت بينها وبين أحدهم، وتعرفتُ على أحلامها المشتركة معه، وخوفها من مفاجآت الأيام التي قد تفرق بينها وبينه.
وحين فرقت بينهما الأقدار كنت وحدي التي تعرف سر بكاء ابنة الجيران في ليلة زفافها لابن عمها.

ومن خلف الجدران أنصت إلى هموم تلك المرأة المسنة، التي كانت تتبادلها مع صديقتها، وأدركتُ حجم الرعب الذي تعيشه كلما هددها ابنها العاق بنهاية باردة في دار المسنين..
ومن خلال الجدران أنصتُ إلى بكاء جارنا المسن على وفاة ابنه البكر بحرقة، رغم حرصه على إظهار القوة أمام الجميع.


ومن خلال الجدران سمعت جدي يستأذن جدتي للزواج من أخرى، ومن الجدران ذاتها أنصت لبكاء جدتي وحيدة بعد أن باركت زواجه ومضى سعيداً..
لم أكن طفلة متطفلة على خصوصيات الغير، لكني كنت طفلة مشاغبة أحب الحكايات المخفية خلف الجدران، لذا كنتُ أنصت إليها وأخفيها في داخلي، في تلك المكتبة التي لا يتصفح محتوياتها سواي..
ففي دواخلنا مكتبات كبرى، وكتب من تأليف الأيام، نتفنن باخفائها؛ كي لا يشاركنا قراءتها أحد.


لكني حين كبرتُ تخلصت من تلك الهواية السيئة، وانتقلتُ لقراءة الحكايات من الكتب الورقية.
لكن ذاكرتي مازالت تحتفظ بتلك القصص التي تسربت إليَّ من ثقوب الجدران... ومازلت حين ألتقي أحد أبطالها القدامى أتذكر تلك الطفلة الشقية وهي تضع أذنها الصغيرة على الجدران بفضول وبراءة..


قبل النهاية بقليل:
الجدران كصناديق مليئة بالحكايات.. لكننا لا نستطيع الإنصات إليها إلا إذا اقتربنا منها أكثر من اللازم.