المدائن الخاصة

شهرزاد

 

حين نفقد مدننا الحقيقية، نُشيّد في خيالنا مدناً مشابهة لتلك المدن التي أخفقنا في الاحتفاظ بها على الأرض.. فهل فكرتَ يوماً ببناء مدينة خاصة بك؟ تزورها في لحظاتك المختلفة، وعند مرورك بتلك المشاعر الخاصة التي لا تود أن يتطفل عليها أحد، كلحظات اختناقك أو بكائك، أو شعورك بتلك الخيبات التي تخلفها في روحك الانكساراتُ التي أرغمتك على التوقف أو السقوط؟
أنا أنهيتُ بناء مدينتي الخاصة التي بدأتُ بتشييدها في ذلك اليوم الثقيل، الذي أعلنّا فيه إغلاق الحكاية رسمياً، وتبادلنا فيه تلويحات الوداع بصمت، وأعيننا تمتلئ بالكثير من المياه الساخنة!
يومها عدتُ منك بالكثير من الذهول، وبدأت في بناء مدينة سقفها من الغيم، وممراتها متفرعة كأنها شرايين قلب متعب، وتحيط بها الأشجار الملونة من كل اتجاه، وتمتد إلى ما لا نهاية.
‏فكنت أتجول فيها حافيةَ القدمين، كلما وضعتُ رأسي على وسادتي وأغمضتُ عيني بهدوء..
‏إنها عادة قديمة رافقتني منذ الصغر، منذ أن اكتشفت قدرتي على بناء مدن أخرى، مدن خيالية تختلف عن تلك المدن التي كنت أسير في طرقاتها كل صباح، وكان الفراق يتربص بي عليها كذئب طريق جائع!
إنها مدن مختلفة، لا تستقبل الفراق أبداً، ولا تغلق أبوابها في وجه أحلامي..
لذا كنتُ أسير في ممراتها بفرح؛ ليقيني أنني سألتقيك في نهاية كل ممر، وسأصافحك بحنين، وأتحدث معك كثيراً، أتحدث حد الثرثرة كأنك وطن طال غيابي عنه؛ فعدتُ أسرد عليه حكاية أيامي، ووجع غربتي..
فبعض العواطف هي أوطان مصغرة، يقلقنا الرحيل عنها، ويرعبنا فقدانها، وأنت كنتَ أكثرَ شيء أخاف فقدانه؛
فمنذ أن أحببتك وأنا فريسة لذلك القلق، ولتلك الوساوس التي قد تتحول مع الأيام إلى حالات هذيان موجعة، كتلك المخاوف التي كبرت بي..
فقد كبرتُ وأنا أخاف تلك الأشياء التي غُرست في قلوبنا الصغيرة بطريقة خاطئة؛ فصرتُ أخافُ من وميض البرق الذي قيل لطفولتنا إنه سيقطعنا إلى نصفين إن نحن ارتدينا اللون الأبيض، وصرتُ أخاف من المطر الشديد لأنهم أخبرونا أنه قد يتسبب في غرق المدينة بأكملها، وأصبحت أخاف من صوت الرياح لأنهم أخبرونا أن ارتفاع صفير الرياح هو غضب إلهي.
وأتساءل الآن، وبعد أن أصبحتْ المسافة الزمنية بعيدة جداً بيني وبين تلك الأصوات التي غرست بنا تلك المخاوف العظيمة: لماذا حولوا تلك الحالات الجميلة إلي حالات من الخوف والقلق؟
قبل النهاية بقليل: لا تتردد في بناء مدينتك الخاصة؛ فنحن في زمن لا تشبه مدنُه الخارجية مدنَ أرواحنا الداخلية.