الجروح الأولى

شهرزاد


للأديب الكبير إحسان عبدالقدوس مَقولة شهيرة تنص على أنه:
(في حياةِ كل منا وَهْم كبير اسْمه الحُب الأول)..
فهل حقاً يمكن اعْتِبار العاطفة الأولى لقلوبنا هي مجرد كُتْلة من الوهم، ومساحة من السراب تتلاشى بمجرد أن نقطع مسافات طويلة على طريق الحياة؟
برأيي أن العاطفة التي تتضح مساحة الوهم فيها بعد فترة من الزمن قد تكون مشاعر عابرة أوعاطفة مؤقتة شبيهة بالحب.. لكنها ليست هو..
فالحُب الأول ليس بالضرورة أن يكون وهْمنا المُلون، ولا أن يكون تلك العاطفة التي نحولها حين نكبر إلى ذكرى فكاهية، فنضحك كثيراً ونحن نسترجع عفوية التفاصيل الأولى،
بل على العكس تماماً، فهو قد يكون الدرس الأقسى على مقاعد الحياة العاطفية، وقد يكون الوجع الحقيقي لقلوبنا، والتجربة الأولى التي قد تدفعنا لاكْتِشاف عاطفة تَخْتَلِف عن تلك العواطف التي اعْتدنا وكبرنا عليها..
فهناك علاقات وحكايات أولى منحتنا الكثير من الفرح والكثير من الدهشة، وخضنا فيها تجارب الخيال وتجارب الطيران بكل تعطش قلوبنا للحب، وعشنا فيها الكثير من الطقوس التي أشعرتنا أننا نخضع لميلاد جديد وحياة مختلفة، حياة شبيهة بالحلم، حياة تَمَسَّكنا بها بقّوة لإيماننا أنها الاسْتِثْناء الذي قد لايتكرَّر في أعمارنا مرة أخرى..
فالحب الأول هو العاطفة التي قد نكتشف بعد سنوات من فقداننا لها أنها الحقيقة الوحيدة في مشوار قلوبنا على محطات الحياة..
وأنها اكْتِشافنا الأول لمعنى الألم الداخلي، والذي قد نبدأ بعده باكْتِساب مَناعة كبرى ضد الحزن، وضد الصَدْمة وضد الفراق، فقلوبنا تبدأ باسْتِقْبال الأحداث والأنباء بعد الجُرْح الأول بحدة أخف ودهشة أقل..
فنحن قد نتغير مع كل عاطفة تمر على قلوبنا، وتتقلَّب مشاعرنا بتقلُّب قلوبنا، فنحب أشياء كنَّا نكرهها، ونكره أشياء كنا نحبها، ونتقبل أشياء كنا نرفضها، وننفر من أشياء كنا نسعى للوصول إليها..
لذا فإن انْتِقالنا إلى عاطفة أخرى ليس بالضرورة أن يكون دليلاً على اتساع رُقْعةِ الوهم في العاطفة الأولى.
فالوهم لا يسكن في العواطف الحقيقية، هو فقط يعشعش في العواطف العابِرة التي لا يوجد مساحة كافية بين بداياتها ونهاياتها، تلك المساحة المهمة جداً لاخْتِبار حقيقة مشاعرنا عليها..
وقبل النهاية بقليل:
في حياة مُعْظمنا هناك حُب حقيقي، أفْلَتنا يده على محطات العمر، فأضعناه وتخبطنا بعده في الأوهام كثيراً.