في كلِّ عامٍ، يتكرَّرُ المشهدُ نفسه:
بطاقاتُ تهنئةٍ، صورٌ لآباءٍ وأبناءٍ، كلماتٌ تُغنَّى في حبِّ الرجلِ الأوَّلِ في حياةِ الإنسان.. الأبُ.
وأنا، أقفُ في المنتصفِ بين الاعترافِ والغيابِ، بين ما لم يكن، وما كان أعظمَ مما يكون.
كبرتُ بلا أبٍ.
لم أعرف ملامحَه، ولم أتعلَّق بصوتِه، ولم أجرِ نحوه حين أتعثَّرُ، أو أُخذَل.
لكنَّني لم أكبر حزيناً كما يظنُّ بعضهم، ولم أذق طعمَ اليُتمِ كما يُروى في القصصِ.
كان في حياتي "أمٌّ" عظيمةٌ.. كانت أكثر من كافيةٍ.
أمي لم تكن شخصاً إضافياً في الحكايةِ، بل كانت الحكايةَ كلّها.
كانت مَن حملتني في جسدِها، ثم حملتني بعد ذلك في قلبِها، وعقلِها، وأحلامِها، ومسؤوليَّاتِها.
كانت مَن سهرت، وعملت، وبكت بصمتٍ، وابتسمت بقوَّةٍ، وقاتلت كيلا أشعرَ يوماً بأن هناك شيئاً ينقصني.
في كلِّ موقفٍ، كان يتطلَّبُ وجودَ الأبِ، كانت حاضرةً.
في كلِّ لحظةِ ضعفٍ، كانت يدها، تمتدُّ إليَّ، وتنهضني.
في كلِّ قرارٍ مصيري، كانت صوتَ العقلِ، وصوتَ القلبِ، وصوتَ الإيمان.
كنتُ أراها تضعفُ أحياناً، لكنَّها لم تنهَر.
وكنتُ أراها تبكي، ثم تمسحُ دموعها قبل أن أراها بوضوحٍ.
كانت تُتقِنُ دورَ الأبِ والأمِّ معاً دون أن تُشعِرَني بثقلِ أحدهما، أو غيابِ الآخرِ.
وفي يومِ الأبِ..
لا أشعرُ بالخسارةِ.
بل أشعرُ بالفخرِ.
فأنا ابنةُ امرأةٍ عظيمةٍ، كانت هي الأبَ، والأمَّ، والبطولةَ، والحنانَ، والقدوة.
إلى مَن يقولون إن غيابَ الأبِ يكسر.. أقولُ لهم: نعم، قد يفعلُ.
لكنَّه لا يهزمُ مَن ربَّته امرأةٌ، تعرفُ كيف تبني ابناً وابنةً من نورٍ، لا من نواقصَ.
امرأةٌ، تعرفُ كيف تُربِّي دون أن تشتكي، وتُعطي دون أن تنتظر، وتحبُّ كما لو أنها تملكُ العالمَ، بينما لا تملكُ سوى قلبٍ كبيرٍ، وكفَّين متعبتَين.
في يومِ الأبِ، أرفعُ رأسي عالياً..
لا لأفتقدَ أحداً، بل لأقولَ للعالمِ: إنني نشأتُ في كنفِ أمٍّ عظيمةٍ.
وأن أمي وحدها، صنعت مني شخصاً، لا يعرفُ الانكسارَ، ولا يُقاسُ بغيابِ أحدٍ.
إلى كلِّ مَن كبروا بلا آباءٍ..
اعلموا أن بعض الأمَّهاتِ لا يملكن فقط القوَّةَ، بل ويملكن أيضاً الرجولةَ الحقيقيَّةَ في معناها النبيلِ، والكرمَ الصامت، والقيادةَ التي لا تُدرَّس.
وفي كلِّ عامٍ في مثلِ هذا اليوم..
لن أقولَ "كلّ عامٍ وأنتَ بخيرٍ يا أبي"..
بل سأقولُ: "كلّ عامٍ وأنتِ العالمُ يا أمي.. وحدكِ صنعتِني، وحدكِ كنتِ كافيةً".