لم تكن حادثةُ سرقةِ المجوهراتِ من متحفِ اللوفر في فرنسا مجرَّد خبرٍ أمني جديدٍ، إذ جاءت لتُعيدَ إلى الأذهانِ ذلك الشغفَ العالمي بقصصِ سرقةِ المتاحفِ، واللوحاتِ التي تفوقُ قيمتُها الأرقام حيث يقترنُ الفنُّ بالهوسِ، والمالُ بالسلطةِ، والذاكرةُ التاريخيَّةُ بالرغبةِ في الامتلاك. هذا النوعُ من الجرائمِ، ألهمَ مخرجي السينما، وصُنَّاعَ الدراما حول العالم، لتتحوَّلَ بعض السرقاتِ الحقيقيَّةِ إلى أعمالٍ فنيَّةٍ موازيةٍ، وأحياناً تصبحُ الأعمالُ نفسها مصدرَ إلهامٍ لجرائمَ مُشابهةٍ في الواقع.

على الرغمِ من أن سرقةَ الأعمالِ الفنيَّةِ قد تبدو في ظاهرها محاولةً لاستحواذِ قطعةٍ نادرةٍ، أو لوحةٍ ذات قيمةٍ عاليةٍ إلا أنها في الحقيقةِ جريمةٌ، تمسُّ الذاكرةَ الجماليَّةَ والثقافيَّةَ للبشريَّة، فالفنُّ، وُجِدَ ليُرى، ويُقدَّر في فضاءٍ مفتوحٍ، لا ليُخفى، أو يُختزَل داخلَ ملكيَّةٍ فرديَّةٍ ضيِّقةٍ.
ويعتقدُ بعضهم أن امتلاكَ عملٍ فنِّي فريدٍ، يمنحُ شعوراً بالتميُّزِ، أو الاقترابِ من عبقريَّةِ المبدع، لكنَّ هذا الفعلَ، يقطعُ علاقةَ العملِ بجمهوره، ويحرمُ الآلافَ من رؤيته، والتفاعلِ معه، فيتحوَّلُ ما يُظنُّ أنه حِفظٌ لجمالٍ نادرٍ إلى تشويهٍ لمعناه، وسلبٍ لقيمته الثقافيَّة.
ومع ذلك، لا يمكن إغفالُ أن قصصَ سرقةِ المتاحف، تحظى بجاذبيَّةٍ خاصَّةٍ لدى الجمهور، فهي تجمعُ بين المخاطرةِ الشديدة، والتخطيطِ المعقَّد، والإيقاعِ المتوتِّر الذي تُحرِّكه الرغبةُ في تجاوزِ المستحيل. هذا البُعدُ الدرامي، هو ما يجعلها مادةً غنيَّةً للسينما والدراما، إذ يتقاطعُ الأدرينالين مع الغموض، وتصبحُ القِصَّةُ في حدِّ ذاتها رحلةً إلى عالمٍ، يحاولُ اختراقَ حدودِ الأمانِ والوقتِ والمهارة، لكنْ يبقى الفرقُ واضحاً: ما يجري على الشاشةِ تخيُّلٌ جمالي مشوِّقٌ، وما يحدثُ في الواقعِ جريمةٌ، تفقدُ خلالها البشريَّةُ جزءاً من ذاكرتها الفنيَّةِ المشتركة.
ما رأيك بالاطلاع على إغلاق متحف اللوفر الفرنسي بعد إعلان وزيرة الثقافة عن عملية سطو
أعمال تناولت سرقات الفن والمتاحف في السينما والدراما
- (The Thomas Crown Affair 1999)

لم يكن الفيلمُ فقط عن سرقةِ لوحةٍ من متحفٍ، بل كان انعكاساً لشغفِ هوليوود بفكرةِ «اللصِّ الأنيق».
أصرَّ الممثِّلُ بيرس بروسنان، الذي لعب دورَ ثوماس كراون، على ألَّا تُصوَّر السرقةُ كفعلٍ عنيفٍ، بل بوصفها عمليَّةً فنيَّةً رشيقةً، تعتمدُ على الإبهارِ لا القوَّة، وهو ما صرَّحَ به في مقابلةٍ مع The New York Times عامَ 1999.
واختارَ المخرجُ جون ماكتييرنان لوحةَ Madame X في بدايةِ التصوير، ثم استبدلها بلوحةِ The Son of Man لماجريت لاحقاً، لأنها تحملُ مضموناً رمزياً أقوى من إخفاءِ الهويَّةِ والخداع، وهو ما يتوازى مع شخصيَّةِ البطولة.

- (The Monuments Men 2014)

يعتمدُ الفيلمُ على قِصَّةٍ حقيقيَّةٍ لوحدةٍ، أنقذت قطعاً فنيَّةً، نهبها النازيون.
وقبل بدءِ التصوير، تواصلَ جورج كلوني، المخرجُ والمُنتِج، مع أحفادِ الفريقِ الأصلي، كما زارَ مخازنَ متاحفَ في ألمانيا حيث لا تزالُ بعض الأعمالِ محفوظةً في أرشيفٍ محكمٍ.
وأعاد الفيلمُ النقاشَ عالمياً حول حقِّ البلدانِ في استعادةِ أعمالٍ، سُلِبَت خلال الحرب، وشجَّعَ المتاحفَ الأمريكيَّةَ البارزةَ مثل الـ MoMA على إصدارِ مراجعاتٍ علنيَّةٍ لمصادرِ لوحاتها.
- (National Treasure 2004)
على الرغمِ من طابعِ المغامرةِ الخفيف إلا أن الفيلم، أثارَ اهتمامَ الجمهورِ بمفهومِ الرموزِ المخفيَّةِ في الوثائقِ والمتاحف.
وبعد عرضِ العمل، ارتفعت زياراتُ الأرشيفِ الوطني الأمريكي بنسبةِ 12% خلال العامِ نفسه، وفقَ تقريرٍ رسمي منشورٍ في موقعِ National Archives.
وأوضحَ جون تيرتلتوب، مخرجُ الفيلم، أن الفريقَ استعان بمؤرِّخين لتحديدِ ما هو ممكنٌ درامياً دون تشويه الحقائق.
- (The Da Vinci Code 2006)
مشهدُ المتحفِ في اللوفر، هو أحدُ أشهرِ المشاهدِ في تاريخِ أفلامِ الغموض. اللوفر، رفضَ تصويرَ معظمِ مشاهدِ الفيلمِ داخل القاعاتِ الحقيقيَّةِ بسبب المخاوفِ من التأثيرِ في حركةِ الزوَّار، فتمَّ بناءُ نسخةٍ مطابقةٍ لبعض الأجنحةِ باستديوهات Pinewood في لندن، والطريفُ أن اللوفر، بعد عرضِ الفيلم، شهدَ زيادةً في الزياراتِ بنسبةِ 5% خاصَّةً للجناحِ الذي تظهرُ فيه لوحةُ العشاء الأخير ضمن القِصَّةِ الرمزيَّة.
- (How to Steal a Million 1966)

فيلمٌ كلاسيكي من بطولةِ أودري هيبورن، وبيتر أوتول، ويدورُ عن محاولةِ سرقةِ تمثالٍ من متحفٍ.
والمثيرُ هنا، أن الفيلمَ أعادَ تعريفَ صورةِ «اللصِّ الظريف» في السينما قبل عقودٍ من Thomas Crown.
وكانت هيبورن ترتدي أزياءً، صمَّمها Givenchy بشكلٍ خاصٍّ للفيلم، ما جعله يتحوَّلُ إلى أيقونةٍ للموضة، وليس فيلمَ سرقةٍ فقط.
- (Lupin 2021)
المشهدُ الافتتاحي لسرقةِ قلادةِ الملكةِ من متحفِ اللوفر في المسلسل، لم يكن مجرَّد مشهدِ أكشن، بل أصبح ملحمةً فنيَّةً متكاملةً.
ويكفي القول: إن اللوفر نفسه، وافقَ على التصويرِ داخلَ القاعاتِ الأصليَّة، وهو حدثٌ نادرٌ جداً.
وصرَّحَ النجمُ عمر سي بأن شخصيَّةَ «اللصِّ الظريف» أرسين لوبين «لا تسرق للامتلاك، بل من أجل إعادةِ صياغةِ العدالة»، متأثِّراً بشخصيَّةِ أرسين لوبين المكتوبةِ عامَ 1905. وأدَّى المسلسلُ إلى ارتفاعِ البحثِ عن سلسلةِ رواياتِ لوبين للكاتبِ الفرنسي موريس لوبلان Maurice Leblanc بنسبةِ 500% في المكتباتِ الفرنسيَّةِ خلال أسبوعٍ واحدٍ فقط.
- (White Collar 2009–2014)
الشخصيَّةُ الرئيسةُ في المسلسلِ مستوحاةٌ جزئياً من القضيَّةِ الحقيقيَّةِ لفرانك أبيجنيل، وهو المحتالُ الذي تجسَّد لاحقاً في Catch Me If You Can.
وصرَّحَ الكاتبُ جيف إيستين، أن ما جذبه في عالمِ سرقةِ الفنِّ، هو «اللحظةُ الفاصلةُ بين تقديرِ العمل، والرغبةُ في امتلاكه»، وهي الفكرةُ التي بُنِيت عليها حواراتُ الحلقات.
يمكنك أيضًا الاطلاع على سرقة أكثر من 600 قطعة أثرية من متحف بريستول في بريطانيا
قيمة الجمال
وبين الواقعِ والخيال، تبقى سرقةُ المتاحفِ أكثر من مجرَّد حدثٍ عابرٍ، فهي مرآةٌ، تكشفُ علاقةَ الإنسانِ بالفنِّ والجمال، وبالرغبةِ في امتلاكِ ما لا يمكن امتلاكه.
وإذا كانت السينما والدراما قد منحتا هذه القصص بُعداً درامياً، وأجواءً من التشويقِ والإبهار، فإن الوجه الحقيقي، يبقى واضحاً: الفنُّ ملكٌ للعينِ لا للخفاء، وللذاكرةِ الجماعيَّةِ لا للأنا الفرديَّة، لذا فإن كلَّ محاولةٍ لسرقةِ عملٍ فنِّي، ليست مجرَّد جريمةٍ في حقِّ متحفٍ، أو مؤسَّسةٍ ما، بل هي اقتطاعٌ لجزءٍ من تاريخٍ إنساني مشتركٍ، وخسارةٌ لفرصةِ أن يرى شخصٌ ما لوحةً قد تُغيِّر حياته، أو تُثري نظرته للعالم.
وهكذا، تُذكِّرنا هذه الأعمالُ بأن حمايةَ الفنِّ، ليست مسؤوليَّةَ المتاحف وحدها، بل هي مسؤوليَّةٌ ثقافيَّةٌ، تشترك فيها المجتمعاتُ، لنظلَّ قادرين على أن نرى، ونندهش، ونُؤمن بقيمةِ الجمال.
يمكنك متابعة الموضوع على نسخة سيدتي الديجيتال من خلال هذا الرابط





