تطل قرية "آل خلف" البدائية البسيطة، في سراة عبيدة، بساحاتها الهادئة ومنازلها الفطرية ووديانها الغضة المترامية وسوقها التقليدي الذي لم يخفت صوته أبدًا رغم تقلبات الزمن وتغيرات الحياة، من بين صفحات رواية "الحزام" للكاتب السعودي الملهم أحمد أبودهمان، لتخترق الكتابات الفرنسية وتجد لها موطئ قدم من بين العديد من الإنتاجات الأدبية الأخرى التي تناولت حكايات بلدان المنشأ، للعديد من الكتّاب غير الفرنسيين، ببيئاتهم المحلية وتفاصيلها الثرية وتقاليدها الغنية وما تمخض عنها وتضمنته من عادات وممارسات قديمة خطها الزمن بمداد الأصالة وشكلت جزءاً من الهوية الأصيلة للكاتب وتعبيرًا رصينًا عن تراثه وبيئته.
أول كاتب من الجزيرة العربية يكتب عملاً إبداعياً باللغة الفرنسية

أحمد أبودهمان أول كاتب من الجزيرة العربية يكتب عملاً إبداعياً باللغة الفرنسية وهو رواية "الحزام" وقد ألفهّا في البداية باللغة الفرنسية ونشرت عام 2000 بدار نشر غاليمار العتيقة، وقد نجحت الرواية بسردياتها الآسرة وتفاصيلها الممتعة في أن تصول وتجول بين الفضاءات الثقافية والساحات الأدبية وتتصدر واجهة المكتبات الفرنسية، وأن تكون محورًا لنقاشات وسجالات وجدالات ما بين كتاب وروائيين ونقاد وحتى قراء عاديين عرب وغربيين استقبلوها بطريقة إيجابية لافتة مما جعلها تلاقي نجاحًا وانتشارًا كبيرًا في ذلك الوقت، حتى أن الكاتب السعودي والذي كان مقيمًا في باريس، منذ سبعينات القرن الماضي، عُدّ أشهر عربي في باريس، في تلك الفترة، بعد أن تصدرت روايته المكتبات وحلقت في فضاءات بلاد الاتحاد الأوروبي منتشرة بكل اللغات هناك، وقد طُبعت 7 طبعات، وتُرجمت إلى 8 لغات منها الإنجليزية والإسبانية وغيرها عبر دور نشر شهيرة.
قد ترغبين في التعرف إلى: حكايات الكتب والكتّاب العجيبة لا تنتهي
عمل روائي يجمع بين الخيال والتاريخ والذاكرة

عكست رواية "الحزام" صورة عالم بعيد تمامًا عن عالم الكاتب السعودي، حيث العالم الغربي وتمدنه بتفاصيله ومآلاته، بكل ألوانه ومادياته ومعتقداته يناقض تمامًا عالم أبودهمان الذي يحمل داخله براءة وروح القرية ويقينها زهيًا مزهوًا متفاخرًا بعاداته وتقاليده الضاربة بعمق الزمن، حيث تقاطعت السيرة الذاتية للكاتب مع السياق السردي الحالم للرواية والذي جاء بأسلوب أدبي رشيق اخترق من خلاله حُجب مجتمع قريته "آل خلف" الصغيرة الواقعة على قمم جبال السروات بمنطقة عسير الجنوبية بالمملكة السعودية حيث الصحراء الممتدة التي تروي حكايات عفويتها الآسرة وتقاليدها القديمة التي استمدتها من شموخ جبالها العالية وصلادة مرتفعاتها الشاهقة وفرادة مناظرها الطبيعية الغضة، متعرضًا لتأثير التغيير على شريحة واسعة من جيل من المجتمع السعودي النامي ممن عاشوا سياقات التحول الاجتماعي والثقافي في المملكة، ومستعرضًا كيف كانت قبيلته وقريته بتفاصيلها ودقائقها محورًا أساسيًا ومحركًا ديناميكيًا مشاركًا في هذا التحول عبر أحداث الرواية التي يكتنفها طابع سحري غيبي مغلف بالخرافات، حيث تندمج أطر الحقيقة مع خيالات اللاواقع.
رواية الحزام ما هي إلا سيرة ذاتية في إطار روائي يجمع بين الخيال والتاريخ والذاكرة، وتُعد من الأعمال المهمة في الأدب السعودي الحديث، غير أن اللافت فيها هو إصرار كاتبها أحمد أبو دهمان أن يرُي الغربين قريته الحبيبة الأصيلة بعينه حاملًا على كتفيه إعلاء شأن هويته العربية الأصيلة، ومستخدمًا لغة الغربيين وألفاظهم حتى يتأكد من وضوح الصورة التي رسم تفاصيلها بقلمه وخط أبعادها بفكره، وسرد متنها بأحاسيسه، والذي كان أحد أهم أسباب نجاح الرواية وانتشارها بالغرب.
بعد أن تأكد أبودهمان من نجاح روايته الحزام بالعالم الغربي أراد أن يشارك عروبته هذا النجاح فقام بترجمتها بنفسه إلى اللغة العربية بلغة شعرية عذبة ومؤثرة، لتصدر عن دار الساقي في بيروت عام 2001 .
شكرًا صاحب السمو على اختيار #الحزام هدية سعودية لوزيرة الثقافة الفرنسية.@BadrFAlSaud pic.twitter.com/k3PXedth5g
— أحمد أبو دهمان (@abodehman) June 21, 2023
واعترافًأ بقيمة هذه الرواية العظيمة فقد قام وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان آل سعود بإهداء وزيرة الثقافة الفرنسية ريما عبد المالك بالعام 2023 نسخة من رواية "الحزام" اعترافًا بقيمتها كهدية نابعة من الثقافة السعودية الخالصة.
رحيل أحمد بودهمان
على الرغم من مرور ما يقارب الربع قرن على خروج رواية "الحزام" للنور إلا أن بريقها ما زال ينير فضاءات الأدب وما زال القراء العرب والغربيون يستمتعون بهذا العمل الأدبي المميز. وقد عادت الأضواء من جديد لرواية "الحزام" عقب رحيل كاتبها المقيم في باريس، أحمد أبو دهمان، فعلى الرغم من أن الموت غيب جسد هذا الأديب السعودي الكبير، إلا أن صوته الأدبي الإبداعي لم يغب، وصوته السردي ونبرته الأسلوبية الفريدة لم تختفي، فحضوره في المشهد الثقافي العربي لم يكن حضورًا عابرًا ولا محدودًا بل كان حضورًا طاغيًا مؤثرًا أثقل الساحة الثقافية العربية، بأفكاره المتقدة وآراؤه الفذة وحضوره الطاغي، تاركًا خلفه إرثًا أدبيًا فريدًا.. رحم الله الفقيد وتغمده بواسع رحمته.
يذكر أن أحمد أبو دهمان المولود بالعام 1949، هو أول كاتب من الجزيرة العربية يؤلف عملًا إبداعيًا باللغة الفرنسية، تخرج من جامعة الملك سعود بالرياض قسم اللغة العربية بدرجة ممتاز، ثم أصبح معيداً في الجامعة نفسها، وفي عام 1979 التحق بجامعة السوربون في فرنسا وحصل على درجة الماجستير.
عمل الراحل بالصحافة السعودية، وكان له عمود في صفحة الرأي بجريدة "الرياض" بعنوان "كلام الليل"، وشغل مدير مكتب مؤسسة "اليمامة" الصحافية في باريس، والرئيس التنفيذي لمؤسسة "الحزام للاستشارات الإعلامية"، ومقرها في الرياض، وفي أحد الندوات تحدث عن روايته "الحزام"، فقال إنها لا تمثل سيرةً ذاتيةً، "ولكني كتبتها لأروي عن بلادي لابنتي ولزوجتي. فنحن ننتمي لبلد متعدد وفيه تنوع ثقافي".
يمكنك متابعة المزيد من هذا السياق عبر الرابط: الوسط الأدبي يودع الروائي السعودي أحمد أبو دهمان





