التبنّي والتّجني

ظلت الأطباق تقريبًا على حالها، وأنا وصديقتاي نسترق النظر؛ ما بين صناديق التبرعات المنتصبة بمدخل «كافيتريا» المؤسسة لفائدة ضحايا الكوارث الطبيعية بالشق الجنوبي للكرة الأرضية، والملصقات بالجدران العاكسة لأجساد من مختلف الأعمار؛ نخرها الجوع والداء وخفّ عنها الكساء؛ الشيء الذي جعل الممرضة الكندية تعلق من طاولتها المقابلة لنا؛ ممارسةً هواية الشجب والنقد: «لعلني وجدت الحل لسمنتِكنّ، صور مشابهة ببريدكن قبل الوجبات كفيلة بجعلكن تستعدن شبابًا ولّى». لتشير عليها صديقة بيرونية بالانضمام إلينا بغرض الاستفسار منها عن أمر.

لم تمانع الممرضة، وحملت نحونا طبقها وتعليقها أيضًا: «دماؤكن غير مرغوب في التبرع به؛ اعتبارًا باتفاقيات الاستيطان تحت مسمى حسن الجوار الذي تعقدنه مع أمراض الرّفاه».. لتقاطعها البيرونية: «تعلمين أن تجربتيْ التخصيب الاصطناعي باءتا بالفشل، ولم أتَّهِمك والطبيبة الإحيائية بالتقصير، ولا رغبتي في الأمومة بالتأخير.. لكن أخبريني بكل موضوعية.. هل مازال أمامي أمل؟ أم للعمر حُكم؟».

بلعت الممرضة ريقها وأتبعته برشفة ماء من كوبي رغم تشدّقها طيلة فصول السنة بالخصوصية؛ اتقاءً لعدوى غير معلومة إلا في مخيلتها، وأجابت: «الأمومة حب ورعاية وليست فقط مخاضًا وإرضاعًا وفطامًا، وإذا غرُبت شمس القدر بسمائنا في روما فقد تشرق بالإحسان لطفل يحتاج محبتنا بمكان آخر، ندفئ أوصاله وأوصالنا»..

لتجيب ثالثتنا النيوزيلندية بحماس: «أراهنُ أنها تخطط لإعداد ملف تبني أحد يتامى زلزال الشيلي، وسأحذو حذوها لتبني طفل أو طفلة من هايتي». قبل أن تحدجني بنظرة جعلت حروف مُباركتي للفكرة تتداخل؛ يقينًا مني بأن الزميلتين ستسعيان لتحقيقها فورًا؛ بغية تذويب صقيع غربة لا ينفك عن ترهيبنا جميعًا بأقنعة الوحدة المخيفة، خاصة أثناء العطل والأعياد.

لكن لم تُشفِ مباركتي المتلعثمة غليلهما وغليل الممرضة التي لوحت في وجهي بتبني صومالية تقاسمني نفس العقيدة، وطوقتني باستفسارات استنجدت لأجلها بزميل عربي كان مارًّا قربنا، برفقة أفريقيين من جنوب الصحراء. فسألته: «أسَيستسيغ مني المجتمع الشرقمغربي إحسان التبني لطفلة صومالية، كما ستفعل صديقاتي مع بعض يتامى كوارث الغرب الطبيعية؟»؛ ليردّ بحزم: «عليك بالتأني وإلا أدخلك ذاك التبني قفص الخطيئة والتجني».

وحينما استنكرت الصديقات بلسان واحد: «جانية؟ أم حانية على يتيمة في الصغر تكون لها عونًا في الكبر؟».. أنهى حديثه وهو يطوّق زميليْه الأفريقيين بذراعيه: «عُرفًا.. متى أطلت امرأة غير متزوجة بولد تجلب العار للأسرة وتُخلّ بشرف العائلة.. لكن جناية صديقتكن المغتربة مضاعفة؛ اعتقادًا أنها زلّت مع زنجي.