فنّد فضيلة الشيخ أ.د. صالح بن غانم السدلان، المزاعم التي تتهم نظام العقوبات في الإسلام بالقسوة والفظاعة، وأكد أستاذ الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أن جهل أعداء الإسلام بحكمة التشريع في الإسلام ومقارنتهم له بالأنظمة البشرية المتهالكة سبب في هذا الهجوم على الإسلام وأحكامه، وأضاف إن الإسلام شرع من الأحكام الكفيلة بتحصين الفرد والمجتمع من الوقوع في هذه الجرائم، لكن هناك أعضاء فاسدة لا بد من بترها قبل أن يتآكل الجسم كله، وأوضح أن أحكام العقوبات في الإسلام لا تطبق كلها على المقيمين في بلاد الإسلام مطلقا وإنما يطبق منها ما هو مقرر في شرعهم، وإلى الحوار مع فضيلة الشيخ أ. د. صالح السدلان:
ما الأسباب التي دفعت أعداء الإسلام لوصف أحكام العقوبات في الإسلام بالفظاعة واتهامها بالقسوة؟
ـ الأسباب والدوافع التي جعلتهم يستفظعون هذه العقوبات ويرون فيها قسوة زائدة وإهدارا لكيان الفرد، واستهتار بشأنه:
السبب الأول: الجهل بحكمة التشريع الإسلامي في العقوبات.
السبب الثاني: أنهم ينظرون نظرة سطحية عند تقويم خطورة الجرائم التي أنيطت بها الحدود، فيستقلونها دون أن يرجعوا في ذلك إلى أي اعتبار لحكمة المشرع وتقويمه.
السبب الثالث: أنهم يضعون أمام أعينهم ذلك النظام الفاسد للحياة الاجتماعية والاقتصادية والخلقية، الذي يسود العالم اليوم، ومع ذلك يريدون أن يكونوا لأنفسهم رأياً عن عقوبات قطع اليد والرجم والجلد، بمقارنة جرائم كثيرة الحدوث كالسرقة والزنا وشرب الخمر... الخ، فالظاهر أنهم لابد أن يجدوا عقوبات الإسلام وحدوده قاسية ورهيبة في هذه المقارنة وحق لهم أن ترتجف قلوبهم هلعاً وفزعاً إذ أن مجتمعا تشيع فيه الفاحشة، وتروج فيه الرذيلة وتكون فيه المثيرات الجنونية من السينما العارية، والأفلام الخليعة والصحافة المريبة، والأغاني المبتذلة والفتنة الهائجة إذا طبقت فيه شريعة الإسلام في مثل هذه الأوضاع فقد لا يسلم من الجلد ظهر أحد من الناس، كما ستقطع أيدي الآلاف منهم ويرجم آلاف منهم كل يوم وهذا فيه ما فيه من الظلم والتعسف.
السبب الرابع: أنهم لم يدرسوا نظرة الإسلام للجريمة والعقاب على حقيقتها ولهذا يتصورون خطأ أنها كالعقوبات «المدنية» ستطبق كل يوم فيتصورون في المجتمع الإسلامي حدوث مجزرة هائلة كل يوم، هذا يجلد، وهذا يقطع، وهذا يرجم، ولكن الواقع خلاف ما يتصورون.
الزجر والردع
ما الرد المفحم لهذه الشبه؟ وكيف يمكن تفنيدها ودحضها؟
ـ أما أنهم يزعمون أن في إقامة الحدود ضرباً من القسوة العاتية، التي تتنافى مع الإنسانية الرحيمة، ومع الشفقة التي يجب أن يتحلى بها الناس والتي تساير المدنية الحديثة، والحضارة الراقية، نقول لهم: نعم، إن في إقامة الحدود مظهراً من مظاهر القسوة والشدة، ولا بد لكل عقوبة أن يكون فيها مظهر قسوة أياً كانت حتى تأديب الرجل لولده فيه مظهر من مظاهر القسوة والشدة، والعقوبة إن لم تشتمل على شيء من القسوة فأي أثر لها في الزجر والردع؟ ثم إن العقوبة في ظاهرها قسوة وشدة وفي حقيقتها ومخبرها رحمة وشفقة، بل هي الرحمة والشفقة بعينها، إذ لو ترك العضو المريض، ونار الألم تتوهج وتستشري لأودي بحياة المريض، بل وسار سرطان الجريمة في أوصال المجتمع كله، فكان من الواجب ومن الحكمة أن يبتر عضو فاسد مفسد، إبقاء ونقاء لكيان المجتمع كله. على أن الإسلام قبل أن يحكم على إنسان بالقتل أو بالقطع أو بالرجم أو بالجلد، قدم له من وسائل الوقاية ما يكفي لإبعاده عن الجريمة، لو كان إنساناً حياً له قلب يعقل أو ألقى السمع وهو شهيد، ولكنه أغلق قلبه وألغى إنسانيته، فكان جزاؤه من جنس عمله جزاء وفاقا، ولا يفل الحديد إلا الحديد، وهكذا فإن الإسلام يقرر عقوبات رادعة قد تبدو قاسية فظة لمن يأخذها أخذا سطحيا بلا تمعن ولا تفكير، ولكنه لا يطبقها أبداً حتى يضمن أولا أن الفرد الذي ارتكب الجريمة قد ارتكبها دون مبرر ولا شبهة اضطرار، فالإسلام يقرر قطع يد السارق، لكنه لا يقطعها أبداً إذا كانت هناك شبهة بأن السرقة نشأت من جوع، والإسلام يقرر رجم الزانية والزاني، لكنه لا يرجمهما إلا أن يكونا محصنين، وإلا أن يشهد عليهما أربعة شهود بالرؤية القاطعة، وهذا يعني أن العقوبات لا تنفذ جزافاً أو تسلطاً على الناس بلا حساب، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه من أبرز فقهاء الإسلام لم ينفذ حد السرقة في عام الرمادة، عام الجوع، حيث كانت الشبهة قائمة في اضطرار الناس للسرقة بسبب الجوع، فهذا مبدأ صريح لا يحتمل التأويل، وهو أن قيام ظروف وملابسات تدفع إلى الجريمة يمنع تطبيق الحدود عملاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «ادرءوا الحدود بالشبهات، وأقيلوا الكرام عثراتهم إلا في حد من حدود الله تعالى» وروي أن غلماناً لابن حاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها؛ فأتى بهم عمر فأمر كثير بن الصلت بقطع أيديهم فلما ولى رده ثم قال: أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى لو أن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه لحل له لقطعت أيديهم ثم وجه القول لابن حاطب بن أبي بلتعة؟ فقال: وأيم الله إذا لم أفعل ذلك لأغرمتك غرامة توجعك، ثم قال: يا مزني بكم أريدت منك ناقتك؟ قال: بأربعمائة، قال عمر لابن حاطب: أذهب فأعطه ثمانمائة.
كرامة الإنسان
من الشبه التي كثيرا ما يثيرها أعداء الإسلام: رجم المحصن إذا زنى ويدّعون أن ضربه بالحجارة ازدراء لإنسانيته، ما قول فضيلتكم؟
ـ نعم، إنهم يزعمون أن قتل المحصن رجماً بالحجارة فيه تحقير وازدراء بإنسانيته وهذا هو أدب أعداء الإسلام ينازعون في كل أمر، ويشككون في كل شيء فبعد أن نازعوا في أصل القتل، واتهموا الإسلام فيه بالوحشية والهمجية، ينازعون الآن في كيفية القتل وطريقته، لكننا نقول لهم: أمن الازدراء والتحقير بالإنسانية أن تقام حدود الله، وليس من الازدراء والتحقير بالإنسانية إذلال الإنسان وتعذيبه بخلع أظافره، وإحراق جسمه، وتسليط الصدمات الكهربائية على مخه وأعصابه، وعصب رأسه في طوق حديدي يقضقض عظمه، وكيه بالنار، وقلع شعره، والعبث بكرامته وآدميته، كما يتعرض لذلك المعارضون في الرأي في البلاد التي تتشدق بالحريات الديمقراطية، وتتباهى بقوانينها ونظمها، ثم إن قتل المحصن رجما لا يراد منه إزهاق روحه فقط، وكفى، وإلا لكان السيف والصعق الكهربائي ونحوها أسرع في تحقيق الغرض المنشود، كما يقولون. إنما المراد من هذا القتل الزجر والردع مقاربة الجريمة الشنعاء، إنه ارتكب جرماً أهدر فيه كرامة الإنسان، وضيع معالم النسب الإنساني، فضلاً عن القتل المادي والوأد الظاهر أو الخفي الذي ألحقه بمجموعة من سلالة الإنسان، فكان من مقاصد الشارع الحكيم أن يقتل الزاني المحصن رجما زيادة له في الإيلام وتنفيراً لغيره عن مقاربة تلك الجريمة النكراء وعبرة لمن تسول له نفسه أو يزين له الشيطان أن يقع في مثل ما وقع فيه، ثم فوق هذا كله: إن الذي فرض العقوبة وقدرها وبين كيفية تكون إنما هو العليم الخبير الذي يعلم دروب النفس وخباياه {والله يعلم المفسد من المصلح} {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}.
حفظ الأرواح
من شبه أعداء الإسلام أيضا: دعوى أن الحدود فيها قتل وتقطيع للأطراف أي تشويه لخلق الإنسان وهذا يفقد الإنسانية الكثير من الطاقات ويكثر المشوهين. كيف نرد هذه الشبهة؟
ـ نعم، يقولون: إن إقامة الحدود تقتضي إزهاقا للأرواح وتقطيعا للأطراف وبذلك تفقد الإنسانية كثيرا من الطاقات، وينتشر فيها المشوهون والمقطعون والمكسحون... الخ. ما قالوا. ونحن نقول لهؤلاء: إن القتل وتقطيع الحدود لفئات شريرة تعطل العمل والإنتاج يؤدي إلى حفظ مئات الأرواح، وآلاف الأطراف سليمة طاهرة عاملة منتجة، مع ملاحظة أن المشوهين والمقطوعين والمكسحين لا يكادون يشاهدون في البلد الذي يقام فيها شرع الله وترعى حدوده، ويسير فيها الراكب من أدناها إلى أقصاها، وربما لا يرى فيها مشوها واحدا، أو مكسحا بسبب إقامة الحد وليس ذلك لأنهم لا يقيمون للحدود وزنا، كلا: بل لأن إقامتهم للحدود قد حالت بين الناس وبين الجرائم التي تقام بسببها الحدود فقلت الجرائم، وبالتالي قل من تقام عليه الحدود، وصدق الله العظيم إذ يقول: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون}.
هناك من يدعي أن في تطبيق الأحكام خاصة القصاص أو الحدود أن في ذلك تضييقا على الأقليات غير المسلمة التي تعيش في بلاد إسلامية. ما رأي فضيلتكم؟
ـ نعم، يقولون: إن في إقامة الحدود على الأقليات غير المسلمة، وإكراها لهم على أن يأخذوا بخلاف ما تقرره أديانهم، وفي هذا سلب للحريات، واعتداء على أناس ليسوا مطالبين بشريعة الإسلام، وأقول:إن الشريعة الإسلامية تسوي بين المسلمين والذميين في تطبيق أحكام الشريعة في كل ما كانوا فيه متساويين، أما ما يختلفون فيه فلا تسوية بينهم فيه، ومعنى هذا: أن عقوبة الجرائم في الشريعة قسمان: قسم عام يعاقب على إتيانه المسلم وغير المسلم، أعني كل المقيمين في دار الإسلام، وقسم خاص يعاقب على إتيانه المسلمون دون غيرهم، وأساس هذا القسم هو الدين كالجرائم التي أساسها ديني محض كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير، يعاقب على إتيانها من كان محرماً في عقيدته، أو يعتبر في دينه رذيلة أو كان إثباتها مفسداً للأخلاق العامة، أو ماساً بشعور الآخرين أو يتضمن تعدياً على الأرواح والأموال، فمثلا شرب الخمر ليس محرماً في عقيدة أهل الذمة ولكن السكر محرم عندهم، أو هو رذيلة فضلا عن أنه مفسد للأخلاق العامة، ومن ثم فإنه يعاقب الذمي على السكر دون الشرب فمن شرب حتى سكر عوقب، ومن شرب ولم يسكر فلا عقوبة عليه من أهل الذمة.