mena-gmtdmp

الجَمالُ امرأة


كدتُ لا أعرفُها، تلك الصديقة القديمة، عندما التقينا في إحدى المناسبات الإجتماعية لكن هي عرفتني، واقتربتْ تُسلّم وتُعبِّر عن الأشواق.

وأنا كنت في ذهول؛ بل في شرود دفعني الى التساؤل عما جرى لها؛ وإذا كان قد حصل حادثٌ بدّلَ معالمَ وجهها...

لكنها سارعتْ الى الشرح، والتفسير، وأخبرتني عن الذي جرى، وهو ليس سوى "عملية تجميل" كما قالت، ثم زادتْني شرحاً:

"زهقتُ من خلقتي، ولاحظتُ ان عدداً كبيراً من الصديقات قد لجأ الى تلك العملية التي تُعيد المرء الى زمن الشباب؛ وجرّبتُ حظّي، ولم أندمْ".

***

أما أنا، فكنتُ أُصغي دون أن أعلّق على كلامها؛ واكتفيتُ بابتسامة خفيفة كي أريحَها، وحتى لا تحسبني متخلّفة عن زماني، أو أني، لا سمح الله، ضدّ الجمال؛ واكتفيتُ بالقول: مبروك.

***

تلك المصادفة دفعتني الى مراجعة موقفي من الجَمال والمرأة، والعلاقة التي كانت، ولا تزال تجمعهما، ومنذ فجر الزمان.

صحيح ان الجَمالَ كلمة ترتدي مع كل عصر لوناً جديداً، لكنه ظلّ دائماً، مُلازماً لوجود المرأة.

لقد اتخذ منها الفنّانُ نموذجاً لرسم اللوحة الجميلة، كما اعتمدها الشعراء مصدراً للوحي والإلهام.

فما هو ذلك الجمال؟

***

أراه في نظري، قيمةً فنيةً وفلسفية، تخضعُ للمفهوم الشخصي والبيئي وتتحوّلُ مع تقلّبِ الزمن. هذا إذا اعتمدنا الشرح والتفسير.

لكن الجمال يبقى فوق كل شرحِ وتحليل؛ إذْ تدخلُ في تقييمه عدّةُ عناصر، منها الذوق، والفلسفة، ومستوى الحسّ بالأشياء؛ حتى اذا اختلف اثنان على تحديد مفهوم الجمال، يكون كلُّ واحدٍ منهما على حق، لأن المسألةَ ليستْ موضوعية، بل تخضعُ للذوق والثقافة.

***

والجَمالُ هو المشهد الذي تلتقطهُ العين، ومنها ينفذُ الى الأعماق. وقد قال الشاعر الإنكليزي "جون كيتْس" في تقييم الجمال: "إن الشيءَ الجميلَ هو فرحٌ أبديّ، يزدادُ تألّقُه مع مرور الزمن".

***

لكن البعضَ يرى ان الزمنَ هو عدوٌ لجمالِ المرأة، بل وللجمالِ إطلاقاً. وربّما كان ذلك الحسُّ بتحوُّلاتِ الزمن ما دفعَ الفنّانَ الى تخليده في لوحةٍ أو منحوتة.

اي ان الفنانَ يلتقطُ تلك اللحظةَ العابرة في حسابِ الزمن، فيجمِّدها، ويُسجِّلها، ويُحسُّ انه تمكّنَ من تحدّي الزمن أو خداعِه، إذ أن الجمالَ، مثل كلّ شيءٍ حيّ، له البدءُ، والتألُّقُ ثم النهاية.

هذا بالنسبة للجَمالِ البشري. لكن الجمال الفنّي يقوى على تحدّي الزمن؛ بل قد يزدادُ وهجُهُ وتألّقُهُ مع مرورِ الأيام.

***

وإذا شئنا مراجعةَ التاريخ، نجد انه لكلِّ زمانٍ مفهومُهُ الخاص بالنسبةِ للجَمال؛ وترتكز قواعدُ التقييم على الذوقِ وفلسفةِ العصر.

وبالطبع، تدخّلتْ يدُ الإنسان، منذ بدءِ الأزمنة، لتزيدَ أو تحوّلَ الخَلْقَ الطبيعي، فتضيفُ أو تُنقص، وتهذّبُ أو تُشذّب. بل إن هناكَ أكثر من يدٍ تشاركُ في هذا التدخُّل، وخصوصاً في زمانِنا الحاضر، وعلى أيدي جرّاحين، أو خبراء تجميل. حتى ان تدخُّلَ أولئك الفنّانين، في إعادةِ تكوين شكلِ المرأة وجسدِها يبدو وكأنّه انقلابٌ على الطبيعة.

***

إننا نعلم ان الفنان الذي يحمل الريشة أو الإزميل، يمكنه ان يختار نموذج الجمال كما يشاء، ويجعلُه رمزاً لعصرِه.

إنما المشهدُ الذي يطالعُنا فوقَ وجوهِ النساء حاضراً، قد فاقَ كلَّ خيال، وتخطّى التصاميمَ التي يحلمُ بها الفنّان. ويتدخّلُ في صنعِ الوجوهِ الجديدة، للنساءِ، وأحياناً لبعضِ الرجال، عدّةُ أشخاصٍ (وهم أيضاً فنانون) وبينهم المزّين، الخيّاط، وجرّاح التجميل، والمخرج السينمائي، وسوى هؤلاء ممّن اختاروا الجمالَ مجالَ عملٍ واهتمام.

***

وبالطبع، تتبدّل الصورة من جيل الى جيل؛ فالنموذج الجمالي الذي كان يُعتمَدُ قبل نصف قرن، لم يعدْ صالحاً للعصرِ الحاضر. كما ان السرعةَ التي نلاحِظُها في التحوّلاتِ العصرية لم توفّر هذه الناحية من الوجود الإنساني، وباتَ التحوّلُ أسرعَ ممّا يرسمُهُ الخيال.

إنما تبقى هناك فئةٌ من النساء، تَعتبر ان قيمتَها الحقيقيةَ ليستْ في جَمالِ الوجه، بل في كلِّ ذرّةٍ إنسانيةِ وعطاءٍ من كيانِها.