mena-gmtdmp

الخط الأحمر

حياتنا مليئة بمرادفات كثيرة، تتكرر حتى يصبح لها معنى متفق عليه بين الجميع، كبير وصغير، ومن هذه المصطلحات مصطلح الخطوط الحمراء، وكم هي كثيرة في حياتنا هذه الخطوط الحمراء، فمنذ صغري كان والدي يصرخ في وجهي: الفشل في الدراسة عندي خط أحمر، إهانة الكبير خط أحمر، الكذب.. وغير ذلك، التي ارتبطت بالخط الأحمر، حتى بات في عقلي الباطن خط أحمر، أو دائرة حمراء تلف مكاني، وكنت شديد الحذر في ألا أتخطى هذه الخطوط الحمراء، وكبرت، وظلت الخطوط كما هي، أنهيت دراستي، والتحقت بالعمل، وطاردتني المؤسسة التي أعمل بها أيضًا بخطوط حمراء، منها: غضب مديرك خط أحمر، إهمالك في عملك خط أحمر، الاستفادة من المنصب بغير وجه حق خط أحمر، وكالعادة التزمت بها كلها، على قدر استطاعتي طبعًا، ولكنني قابلت في عملي زملاء يعشقون تجاوز الخطوط الحمراء، وعندهم مبرراتهم الشخصية التي تعود إلى تجارب سابقة، ربما، أو تعود لحبهم لكسر كل ما هو حاجز ومانع، ومن هؤلاء زميل بالعمل انضم حديثًا، وقد نصحناه بأن بإمكانه الدخول على كمبيوتر المؤسسة، وعلى كل ملفاتها، إلا ملفا واحدا يخص قاعدة البرنامج، فلا يجوز الدخول إليه، أو العبث بمحتوياته، لم تمر سوى ساعات إلا والكمبيوتر في المؤسسة تحدث فيه حالة توقف عام، والسبب زميلنا الجديد، فقد دخل فقط على النظام الذي أعد للبرنامج الذي تعمل عليه المؤسسة، واستغرق وقت إصلاحه كثيرًا، وتعطلت مصالح العملاء، وتوقفت الحركة تمامًا، حتى نهض للعمل من جديد، وأعدنا عليه قراءة النصيحة، ونبهناه إنها من المحاذير يا هذا لا تقرب هذا الملف.. ورغم وجود كلمة مرور لا يعلمها، إلا أنه أعاد الكرة، وعبث بالملف، وألقى ببعض ملفاته في المهملات.. وعبث عبثًا جنونيًا هذه المرة حتى توقف الكمبيوتر عن العمل ثانية.. وهذه المرة أحيل للتحقيق، وتم سؤاله عن سبب عبثه في هذا الملف تحديدًا، وكانت إجابته: أنا لا أستطيع أن أقف أمام أي ممنوع، أو أمام أي خطوط حمراء إلا وتجحظ عيناي، وأصبح كثور تتأرجح أمامه قطعة من القماش في حلبة صراع، فيحدث هيجان في أعصابي، وأندفع بدون إرادة، وأفقد السيطرة على نفسي، ويحدث ما يحدث.. وبعد التحقيق تمت إحالته إلى عمل آخر بعيدًا عن الكمبيوتر.

هناك الكثير على شاكلة زميلي، منهم من يتعدون الخطوط الحمراء في الصحافة، فيلوثون شرف شخصيات بعينها، ويقذفون من أحشائهم ما تعف عن ذكره النفس على شخصيات بعينها، فقط لأنهم يختلفون معها، أو لمجرد حبهم للظهور، فيستغلون مساحتهم ويسودونها بلون قلوبهم، ويتعدون خطوطًا حمراء كثيرة، ويتقولون على الناس بالباطل.

أما عن الخطوط الحمراء التي يناضل كثير من الساسة في تجاوزها، والقفز عليها، وأيضًا لهم مبرراتهم، فمنها في دولنا العربية: ممنوع نقد الحكومة، أو بعض الشخصيات التي لها حيثية، ولكن المعارضين، أو القافزين على الخطوط الحمراء، ما أن يروا هذه الخطوط إلا ويصبح حالهم كحال صديقي، كثور هائج، وهذه المرة في محل خزف، فلا يتركون كبيرة ولا صغيرة إلا وذكروها، ومنهم من يتعدون الحياة العامة حتى يصلوا إلى الحياة الشخصية، التي هي ملك صاحبها فقط، ومبررهم في ذلك أنهم شخصيات عامة، ومن حق العامة أن يتلصصوا على حياتهم، ويلقفوا منها ما لذ وطاب من أخبار وأسرار، والأمر لا يقف عند هذا الحد، بل يصل حد الفضائح، وما أكثر المهللين للفضائح من صحف، ومجلات، ومحطات فضائية، وليس غريبًا أن نرى غدًا جمعية لمحبي القفز على الخطوط الحمراء، شعارهم فيها ثور بقرنين طويلين مغروسين في قلب خطين حمراوين، الصورة مزعجة حقًا أن تستمر الحال بهذه الطريقة، الحرية ليس معناها كسر الحاجز فقط، ولكن معناها الحفاظ على حقوق الآخرين، الحرية ليس معناها سلب الآخرين لحرياتهم، ولخصوصياتهم، وأخيرًا، لا يعقل أن نصبح «ثيرانًا» في حلبة بعد أن منّ الله علينا بعقل يفكر، وقلب يشعر.. وعقيدة تلزمنا بالأخلاق قبل كل شيء.