mena-gmtdmp

القاصر «لينا»

 

لينا بنت الثانية عشرة، كانت تحتضن عروستها وهي تقف إلى جوار عمِّها أمام القاضي.. تشعرها «لولو»، العروسة، بالأمان، عندما ينالها الإحساس بالخوف والضياع، يسأل القاضي ولي أمرها: أليست صغيرة؟ يجيب عمها الملتحي: الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، تزوج عائشة، رضي الله عنها، وهي بنت تسعٍ.. يرد القاضي: أو لو كانت ابنتك لزوّجتها في هذه السن؟! يكذب العم، ويجيب بالإيجاب.. وحقيقة الأمر أن ابنته أكبر منها، ولم يزوجها إلا بعد أن حادت العشرين.

لينا، ضحية بخيل.. مات أبوها وهي طفلة، فرعاها وأخاها عمُّها، الذي تولى الوصاية عليهما.. وبعد سنوات، استكمل خلالها عملية الاستيلاء على إرثهما، قرر أن يتخلص منهما.. دفع الولد، وهو في المتوسطة، إلى العمل الميداني، والسكن مع العمال في أطراف مدينة جدة، ودفع البنت إلى الزواج من رجل يجاوز عمره ضعف عمرها.

ليلة الزواج كانت سعيدة.. فرحت بالهدايا والملابس، والاهتمام الذي حرمت منه منذ طلاق أمها وزواجها خارج البلاد، ووفاة أبيها.. لعبت ولهت.. وكادت تنسى أنها العروس، وتخرج إلى الشارع لتواصل اللعب.

لعلها أدركت، رغم طفولتها، أنها آخر ليالي الفرح.. بلا مسؤولية.

في العام التالي أنجبت لينا.. ثم أنجبت مرة أخرى بعدها بعامين.. في الخامسة عشرة كانت أمًّا لطفلين، في بيت مسؤولة عن كل شيء فيه، ربما لم يحتمل عقلها كل هذه المسؤوليات والضغوط.. فبدأت في اللعب واللهو من جديد.. ولكن مع الرجال.

لينا كانت فاتنة، شقراء، وذهبية الشعر، كأمها الأجنبية.. وكذلك كان أخوها.. كان من الصعب عليهما أن يصمدا في زمن اليباب.. انحرف الأخوان، كل في طريق.. الولد وجد نفسه في بيئة فاسدة استولت عليه.. والبنت لم تنضج، وربما افتقدت الرعاية والتوجيه في غياب الأب والأم.. والعم البخيل.

لم يحتمل صاحب العمل انحراف أخيها، فقذف به إلى دوامة الضياع.. ولم يحرك العم ساكنًا، وتبرأ منه، فغاب المسكين في غابة الدنيا.. وتاه.

أما لينا، فقد طلقها زوجها، ولما رفض العم استقبالها وتركها على بابه.. بقيت على الباب حتى منتصف الليل، ثم.. ثم اختفت.

مثل لينا كثير، ربما تختلف التفاصيل، لكنها تتفق في الطمع والتهاون في الأمانة، والنظرة الدونية للمرأة على أنها حمل ثقيل، يرميه كل من يبتلى به على أول طارق باب.

ماذا فعلت لينا، وكل لينا، لتستحق هذه العقوبة؟ كم تكلِّف تربية بنت سنوات إضافية؟ وفي المقابل، كم من ثواب الآخرة، وجزاء الدنيا، وطمأنينة البال، وراحة الضمير، سيخسره المفرط؟

وفي المنطقة الشرقية، تزوجت طفلة من عجوز، بقيت معه ستة أشهر، ثم أعادها إلى بيت أهلها واختفى.. مات أبوها وتركها مع أمها تصارعان أمواج الحياة وحدهما.. وبعد عشر سنوات، اكتشفت البنت أن زوجها طلقها في المحكمة، ولم يكلِّف نفسه بإبلاغها، ولم تبلغها المحكمة!

هل تثير مثل هذه التصرفات استغرابكم؟ انحراف زوجة، أو قسوة قلب زوج.. لا مبالاة ولي أمر، وتخاذل أمّ وأهل.. ومجتمع؟

الحالة الإنسانية مليئة بالتناقضات والقصور، ولذا كان حتمًا على المجتمعات المدنية أن تضع القوانين والضوابط التي تحكم هذه الحالة وتقننها، وتفرض عليها التصرف بحضارية وإنسانية، حتى في الأحوال الشخصية.

وبقدر ما نأسى على حال الأسر التي سمحت لهذه الكوارث بالحدوث، لجهلها أو لقسوتها، بقدر ما نألم لغياب القوانين التي تأخذ على يد الظالم، وتحمي حقوق الضحية.

آن الأوان لأن تدرس هذه الظواهر، وتوضع لها آليات تصححها وتقيدها، فمن خلال التوعية الدينية والثقافية، نصحح مفاهيم من يعتقد بصحة رواية زواج النبي، صلوات الله وسلامه عليه، من أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، في التاسعة، رغم أن بعض الآراء والحسابات التاريخية تثبت أنها تزوجت قرابة العشرين.. ونبيِّن في الوقت نفسه أن ما كان عليه حال جداتنا ليس بحال بناتنا اليوم، فالنضج الذي سمح لبنت قرن مضى بأن تتحمل مسؤولية بيت وأسرة، لا يسمح اليوم.. وفارق السن يجب أن يوضع له حساب وتنظيم، فلا يعقل أن يتزوج «عاجز» في السبعين، مراهقة، متجاهلاً كل الفوارق، بما فيها فارق «الصحة».

شكرا لـ «سيدتي» تبنيها لهذه القضية.. والعشم في المجلس الفقهي الإسلامي، وفي المسؤولين بمجتمعاتنا العربية، لحسم هذه المسألة.. عاجلاً!