لنلجا إلى الليل.
لنلتصقْ به مثلما يلتصق الرضيع بصدر أمه.
يطرحُ علينا الليل رداءَه. يحمينا.
يصدُّ عنّا كلّ الهجمات المعادية.
<<<
ويبقى الليل ملجإي.
هكذا قلتُ للحارس الواقف بامتثالٍ وإخلاص عند بوابة القصر.
ثم توجّهتُ الى رفاقه وقلتُ لهم: رجاءً،
لا تأخذوا منّا الليل.
ونحن نشأنا على التغنّي به و.. يا ليل
يا عين!
ولم نكتُب شعراً يمتدحُ النهار؛ لأن أنهرَ بلادنا تنفث من الحرارة ما يُذيب منّا كلَّ حَيْل.
<<<
وقلتُ للحرّاس عند بوابةِ القصر: أرجوكم، أتركوا لنا الليل، ليبقى مهبطَ الوحي ومسْرى الأحلام.
ونحن ورثنا حبَّ الليل من الشعراء والكتّاب.
وكلُّهم يلتقون على اختيار الليل، إذ كان لهم مصدرَ الوحي والإلهام.
<<<
والليلُ ستّارُ العيوب، تقول المرأة
العجوز.
ويمرُّ على القلوب بممسحتِهِ السحرية لتعودَ نقيّة كالثلج.
<<<
كان الحارسُ يُصغي اليّ، ولا يفهمُ قصدي.
ثم سمعتُه يُتمتم:
ـ لكن الليلَ موحش، خصوصاً لنا، نحن الغرباء في المدينة.
وقد غادرنا قرانا، وخلّفناه رابضاً فوق التلال. وغرسنا تحت قدميه أناشيدَ الرحيل والفْراقيات.
وكانت تلك الأغاني سلوى الوحدة والظلام في الليالي الجبلية الموحشة.
<<<
أذكرُ، بالأخص الفْراقيات، وكانت تراثَنا منذ القِدَم، حين كانوا يرحلون ويتركون لنا الكلمات والأنغام تُهدهِد وحدتَنا، تُسلّينا، وندعوها: قصائد الحنين.
<<<
منذ قديم الزمان بدأوا الرحيل.
ما ان ينبت الزغبُ في أجنحتهم، حتى ترفّ بهم وتدعوهم الى التحليق.
وهم يُلبُّون النداء. ويتواصل رحيلُهم على مدار أشهر السنة، ولا يقتصرُ على شهر أيلول، مثلما تفعل الطيور.
<<<
وأكرّر قولي للحارس الأمين الواقف عند الباب:
ـ دع الليلَ يُرخي علينا سُدولَه، ويضخّ الوحيَ في مخيّلة الشعراء والأحبّاء، إذ يبقى، أبداً، ليلَ الشعرِ والخيال.
<<<
لكن الحرّاس المتجمهرين عند بوابةِ القصر لا يأبهون للشعر. ويبقى الليلُ، بالنسبة، إليهم، مسافةً طويلة من الضجر والوحدة، ويجتازونها بالصبر والأنغام المكبوتة.
<<<
وأقول لهم: تعالوا نلجأْ الى الشعر يرفع عنّا ثقلَ الإنتظار، يُفجّرُ لحظات الضجر، ويغرسُ في المخيّلة صوراً تتعانقُ فيها الألحانُ والألوان.
<<<
وأقول لهم: الليلُ والشعرُ صِنوان. كلاهما غامضٌ، ويُرخي سُدولَه، فتتوَلَّد من أسرارِه أجملُ الصور والآيات.
<<<
أما أنا، فأبقى ساهرة في ضوء القمر؛ وأحلم بأن لا يكون لذلك الليل من آخر، إذ أنه يُدخلني في عوالمِ الصمتِ ومتاهاتِ الأحلام.
<<<
ولكن، وعندما ينبلجُ الفجر، وتَنهضُ الأسرارُ لتصبحَ واقعاً، وتقفُ في النور، ينسحبُ الليلُ مع رفاقِ السهر والأحلام.
من دونِ ان يودّع، يجرُّ أذيالَه، ثم يمضي.
ويتركني في حيرتي، واقفةً عند عتبة نهار جديد في انتظار ما سيأتي.