mena-gmtdmp

تساؤلات (إلى مها)

لكني بالأمس كنت أحتضنُها طفلةً، فمتى كبرتْ؟...

ومتى تعلّمتْ، وجمعتْ هذا الجمالَ في عملِها الفنّي، وتصاميمها الهندسية؟

<<<

 

وبالأمس، كانت طفلتي، وتُفرحني زقزقةُ كلماتها.

تملأُ صدري غبطةً واعتزازاً بجرأتِها، ونباهتِها.

لم تكن تخشى المغامرة، وتسعى الى جني العلمِ والمعرفة بكل الشغف والإخلاص.

<<<

 

وبالأمس فقط، أذكرُ أنها عانقتْني، وراحتْ تُردّد كلماتٍ غرستُها في وعيها، وتُسمعُني قصصاً رويتُها لها، أو ممّا ابتكرتْه مخيّلتُها الطفلة، فمتى كبرتْ لتؤلِّفَ كتاباً بهذا الجمال والبهاء؟

وكيف أمكنها، وهي من جيلٍ نشأ في خلال الحرب، وتنشّقَ الرعبَ مع كل نفس، كيف تأتّى لها ان تختزنَ هذه المعلومات والمعارف؟

ومن أيّ الحدائق جمعتْها؟

<<<

 

تكتبُ لتروي مسيرة حياتها العملية، فاذا بها تشكُّ وردةً مكان كل حرف. وإذْ تعرضُ ما رسمتْه في تصميم العمارةِ والبنيان، تبدو أعمالُها مثل حدائق مزدانة بالألوان. وألوانُها تعبيرٌ عن صفاء روح، واكتنازِ عقل، وسعةِ معرفة.

<<<

 

جمعتِ الشرقَ والغرب، وغاصتْ حتى جذورِ التراث، لكي تُخرجَ إبداعاً جديداً، في فنّ العمارة كما في الرسم.

<<<

 

كتابُها الأولُ هذا، بين يديّ، ويبدو لي عنوانُه لغزاً: خمسة ـ صفر وتعني الرقم (50).

خمسون برَكة من عمرها تضمُّها صفحاتٌ يربو عددُها على أربعمائة، وكلُّ صفحة حديقةٌ من بعض ما نُبصرُ في الأحلام.

<<<

 

كنتُ أعرفُ بأنّ طفلتي موهوبة. وكانت تقفُ فوقَ رموشِ العينين، وتبيتُ في شغافِ القلب.

وظلّتْ، في كلّ خطوة مَشتْها، تختارُ التحدّي، وتذليلَ العقبات، وتنجح.

منذ أن سارتْ أولى خطاها، اختارتْ طُرُق الصعود، مدفوعةً بحوافز غُرستْ في كيانها، وهي من بعض ما ميّزها به باريها.

<<<

 

وتسألُني الصديقة عن شعوري حيالَ صدور الكتاب الأول لابنتي.

أُصغي الى سؤالها، ولا أُجيب. هل أقول لها: إنه حدثٌ أخرسَ كلماتي؟... وان المفاجأة تعقلُ لساني، فلا أجدُ وصفاً يُعبِّرُ عن الحالة؟

هل أعترفُ بأن ابنتي فاجأتني؟

هل أقول: انها وضعتْني أمام الأسئلة الصعبة، وفي طليعتِها سؤالٌ شخصي وعامٌ في آن معاً:

ـ هل حقّاً، نعرفُ أولادَنا؟

وهل ما نَعيه من ذكرياتِ حضورِهم في حياتنا، ونموّهم لحظةً لحظة، في أصباحِنا وأماسينا، هل هو واقعٌ وحقيقة؟ أم من بعض ما تبتكرُه المخيّلة؟

<<<

 

وهم أولادُنا.

وقد أجادَ وصْفَهُم ذلك الشاعرُ الحكيم حين قال: إنهم أسهمٌ تنطلقُ أبداً الى الأمام؛ فهل تُعطى، أبداً، فرصةَ الإلتفاتِ الى الوراء؟

وحتى لو فعلَ الأولادُ، وتطلّعوا صَوْبنا، فهل يُبصروننا مثلما نَراهم؟

<<<

 

وإذْ أعودُ الى النبشِ في دفتر الذكريات، يُطلُّ وجهُها الطفل من بابِ حضانة الأطفال، وأسمعُ صوتَ معلمتها يخاطبني: لديها موهبة لصنع الأشياء الجميلة.

<<<

 

هل تحقّقتْ نبوءةُ معلّمة صف الروضة، عندما أبصرتْها تداعب المعجونة الملوّنة، وتحوّلها الى أشكالٍ جميلة؟...

ثم تقدّمُ معلمةُ رقص «الباليه» شهادتها: «هذه الطفلة مولودة وهي ترقص على رؤوس قدميها... هي راقصةُ باليه بالسليقة».

أمّا في الرسم فقد كانت تقطع أشكالَها الجميلة من سحر الخيال، ومن فرحٍ يشعُّ نوراً من عينيها.

وهذا كلُّه يضمّه هذا الكتاب الفريد بين يديّ.

<<<

 

«ولكني بالأمس كنت أحتضنُها طفلة»، أسمعني أهمسُ لذاتي.

والآن، أسألُ النفسَ والضمير:

ـ هل حقاً ان أولادَنا يكبرون؟... ومن خلف وعينا يُوقظون الأحلامَ الغافية والأماني؟