ذهبت إليه بعد انتهاء فترة الدوام الصباحية.. كان يتهيأ للخروج.. عرفت أنه لن يمنحها وقتًا، فدخلت في لب الموضوع.. «سيدي، هل يمكنني أن أذهب إلى البيت؟ ابنتي مريضة.. أنجزت كل ملفات اليوم...».
«لا، سأعطيك ما يشغلك بعد الظهر».
«حالة البنت فظيعة، وأنا قلقة عليها...».
« ليس هذا شأني.. إن تغيبت سأكتب تقريرًا بالأمر، وسيكون عليك تبرير الواقعة بالوثائق إن لم ترغبي في خصم شهري جديد...».
صرفها، واغرورقت عيناها.. لماذا يتصرف بهذا الشكل؟ ألا يملك قلبًا؟!
لا تدري إن كانت ستغامر بتركه يخصم جزءًا من أجرتها.. أدوية الفتاة غالية، والطبيب يتحدث عن تجربة علاج جديد ومكلف.. لكنها لا تستطيع أن تبقى بعيدة عنها وهي في الحالة التي وصفتها جارتها.
رجعت إلى المكتب ولملمت أغراضها.. سألتها زميلتها عن الأخبار.. «لا جديد» ردت وهي تخرج.. «سيخصم جزءًا آخر من أجرتي».
«نذل!» صاحت زميلتها «المقربون منه يتغيبون كما يشاؤون، دون تقديم تبرير، ونحن نعاقب حتى عندما نقوم بواجبنا.. يجب أن يوقفه أحد عند حده !».
زميلتها مغتاظة أكثر منها من تصرفات الرئيس.. تركت المكتب مرة لتلحق ابنها الذي تعرض لحادثة في المدرسة، وعادت لتجد الرئيس قد حرر تقريرًا بشأن تغيبها.. حذلقته الزائدة تسببت في تسجيل نقطة سيئة في ملف ترقيتها.
تنهدت ووقفت تنتظر الحافلة في الخارج.. ليفعل ما يشاء.. لا تريد أن تفكر الآن سوى في ابنتها.
الطريق إلى البيت طال دهورًا.. ليس للفتاة أحد سواها.. والدها توفي.. والعمل الذي حصلت عليه بشق الأنفس يحفظ ماء وجهها، ويمكّنها من العيش بستر وكرامة في مدينة يلائم جوها حال البنت التي تشكو من أمراض تنفس مزمنة.
تمنح الجارة أجرة لتبقى مع الفتاة كلما تدهورت صحتها.. صار ذلك يحدث كثيرًا في الفترة الأخيرة.. لم تعد الأدوية تنفعها.
صوت التليفزيون العالي يكسر جدران الشقة الضيقة.. الجارة تتفرج على مسلسل مدبلج وفي يدها صحن مملحات.. لم تكلمها.
جرت إلى الغرفة.
البنت تنام، وشعرها المبلل يلتصق بجبينها الشاحب.. قبلتها وحمدت الله.. حرارتها غير مرتفعة.. ولكن صدرها يصفر بشكل مقلق.
«فاتتها الحالة منذ قليل، ونامت...».
نظرت لساعتها، وقبّلت ابنتها، وتركتها والجارة في إثرها.. المطبخ في حالة يرثى لها.. شمّرت عن ساعديها، وانهمكت في التنظيف.. جارتها تردد موالها المفضل:
« كل شيء غالٍ.. لم يأتِ لي أبو الأولاد سوى ببعض العدس والسكر.. ماذا سأفعل بهما؟ بمَ أطبخ العدس؟ وإلى ماذا أضيف السكر؟ سيعود الأولاد عما قريب والمطبخ فارغ.. لا كسرة خبز حتى! لم يتسنَ لي الوقت لأدبر شيئًا.. منذ طرقت بابي وأنا بقرب ابنتك...».
تنهدت، وأخرجت من الثلاجة خضارًا، وفاكهة، وبعض اللحم.. تحركت الجارة بخفة تلم الأغراض في كيس بلاستيكي، وتستأذن.
واصلت تنظيف المطبخ، وأعدت بعض الأكل للصغيرة..
اتصلت بالطبيب، واتفقت معه على موعد جديد، وسجلت ما عليها شراؤه من أدوية.. وقفت طويلاً قرب ابنتها تتساءل إن كانت تستطيع أن تتركها وحدها لحين إحضار الأدوية.. بدت غارقة تمامًا في النوم.. تنهدت، وخرجت على أصابع قدميها.
أخبرتها موظفة الصيدلية القريبة بأن الأدوية غير متوافرة عندها.. أغلبها جديد ولم يتم توزيعه بعد.. عليها أن تذهب إلى الصيدلية المركزية في وسط المدينة.
استلزمت رحلتها بالحافلة أكثر من عشرين دقيقة.. وجدت الصيدلية مكتظة.. وقفت في أحد الطوابير، وسمعت السيدة التي تسبقها تبرطم بغضب: «عشنا وشفنا! الناس تموت، وهو يتسوق مساحيق تجميل في الصيدلية.. رجال آخر زمن!».
تابعت نظرة المرأة ولمحت وجهًا تعرفه..
رئيسها في العمل..
كان يتكئ على كونتوار الصيدلية، ويقلب مراهم رجالية لحماية البشرة من الشمس.. لم يكن بعيدًا عنها.. سمعته بوضوح وهو يقول للبائعة التي جمعت العلب التي اختارها: «شكرًا لنصائحك آنستي.. سأعمل بها.. وبالمناسبة... كيف تجري الاستعدادات لحفل الصغير... ابن أختك؟ تلفتت لي في الصباح وأخبرتني بأنها لن تستطيع الحضور للمكتب.. قولي لها بأن الأمر لن يطرح مشكلة.. لتنس الشغل يومين أو ثلاثة.. لن أحاسبها.. لكن بشرط.. عليَّ أن أتوصل بدعوة، أنا والمدام...».
ضحك بصوت عالٍ.. ومضى.
تملكها القهر وهي تفكر في كلماته المليئة تهديدًا ووعيدًا في نهاية الصبيحة.
ما ذنب ابنتها في كل هذا ؟!