mena-gmtdmp

من الصبابة والوجد ـ3ـ

أعلم أيدك الخالق بمدد من عنده، أنني عرفت ظروفًا أخرى من البدء، من النشوء، بعضها يشبه ميلاد الطل، وآخر كتدفق المياه بعد انهيار سد، حدث أن كنت في صحبة يومًا، وجاءت بنية هيفاء، رحبة، ولحظة دخولها الحجرة نفذت مباشرة عندي، وكان بيني وبينها شأن، ثم انتهى الأمر، فلا تبدأ صلة إلا خاتمتها معها، ولهذا تفصيل وشرح أورده فيما بعد، وفي مرة أخرى لاحت لي صاحبة بعد طول استتار، ذلك أن مكان تواجدها اليومي كان نقطة عبر طريقي، قضيت عامين أمر بها وأبادلها التحية، حتى لاحت لحظة، فبدا لي قبس من لحظها، وطيف من جمال عينيها، وشوارد مفلتة من داخلها المضيء، فانتبهت! ما هذه البنية؟ فلاحت لي شيئا فشيئا، وعندما تمكن بصري من وجودها بين شجرتي التيوليب كان ثمة نبأ بعيد يخبرني بأنها ليست المرة الأولى، وبقدر ما هي محدثة، بقدر ما هي قديمة، موغلة الجذور عندي، بل إن يقيني ترسخ بعد مفتتح كلماتي، ونطقي بحضرتها، في العصر قبل رحيلنا بساعتين إلى مدينة بخارى، أقيم حفل صغير، خطب البعض، والتقط آخرون صورا، ولكنني كنت بعيدا عن هذا كله منفلتا من الزمن، بعد أن صار لي توقيتي الخاص المرتبط بها، كانت شيئا فشيئا تقترب لتصبح محور تقويمي، ومركز ما يشدني، كنت ساهما، غير مصغ إلى ما يقال، مولّيا حواسي الخفية إلى جهة جلوسها، تهمس للرجل الهندي بمعنى ما يقال، كانت على مقربة، وكان لها أزيز تجاهي، حتى إذا انتهت الكلمات، دخل شابان يحنو أولهما على آلة طنبور، أما الثاني فجلس إلى سنطور، أجرى الأول قوسه، فجّر حزنا معتقا، استنزل أنينا كونيا، كدت ألمح قدح الشر المتولد عن حدوات خيول التتار الذين اجتاحوا تلك الربوع، كدت أرى بيارق الغزاة، والجزع النائي، أصغيت إلى خلاصة الشجن المتوارث، إلى لب العويل النائي، اعلم يا صاحبي أن ما انقضى عند الآخرين باقٍ عندي وإن استتر، ما لم يره الماضون الساعون أوليته جل عنايتي، ولأن هبوب الوجد بدأ، ونذره لاحت، ملت تجاه العازف، حركت يدي، طربت فتمايلت، حتى إذا جلا عازف السنطور أوتارا، وأحيا نغيمات طال احتجابها، وحرك الشجن الكظيم في أغواري، تأهبت للإقلاع المفاجئ، غير أن ما جعلني أحجم إلى حين، انسياب بنية منمنمة، رقيقة الحواف، دقيقة التكوين كعصفور مهاجر حط وحيدا قبل أن يلحقه سربه، واحدة من بنات الأوزبك، متدثرة بغلالات من زمن سحيق، ترتدي غلالات رقيقة خضراء، تبتسم للجميع في وقت واحد، فهي هنا وهناك، مست الجهة اليمنى بحضورها وسرعان ما انفلتت إلى الجهة اليسرى، إلى أمام ثم وراء، تبسط اليد وتشير بأصابع أخرى، لم يكن رقصها أداء، بل كان شرحا ومعنى، على فمها ابتسامة نجاة من أهوال التاريخ السحيق، كل من بهذه القاعة كان ممكنا ألا يصل إلى هذه اللحظة، لو أن أحد جذوره النائية أبيد في غزوة، أو فني في وباء، هذا حالي أيضا؛ لذلك طق عندي الفرح النادر، البهجة الغريبة لألف سبب وسبب، بدءا من نجاة جدودي الأقدمين، حتى وصولي إلى هذه اللحظة الآنية، اللحظة التي لم أعد لها العدة، ولم أتهيأ لها عند القيام بالرحلة، إلا أنني ألقيت بذاتي في اللجة مع أني لا أتقن فن العوم، وعندما دنت مني، وكنت أول من أشارت إليه ليشاركها، قمت غير مرتبك، ورفعت يدي، وتمايلت فكنت الظل لأصل بديع، وكانت الصدى لصوت من بعيد، درت في مكاني، حتى إذا وقعت عيناي على من أحوم حولها، وأحاول الدنو من مشارفها، سكنت، أو قل بهت، كانت متطلعة إليَّ، متوجهة إليَّ بملامحها المتسقة، الصريحة، تقعد مجاورة للرجل الهندي، لم تطل سكينتي، إنما حزمت أمري، ولملمت حالي، قطعت المسافة الفاصلة رافعا يدا خافضا أخرى، ثانيا ساقي، كأني أحجل، كأني أخلق رقصة خاصة، غير معهودة، حتى إذا واجهت ملامحي ملامحها، ولم يعد الفراغ الذي يفصلني عنها كافيا إلا لمد يدي إذا شرعت في المصافحة، توقفت ضاما قدمي، فاردا قامتي، متأهبا لانحناءة عميقة، تمنيت لو أن جذعي ساعدني، ولو أن لياقتي واتتني حتى تبلغ انحناءتي حدا لم يبلغه أحد قبلي، وعندما اعتدلت حدقت في عينيها، لم أكن هيابا أو وجلا، فمن ناحيتي قدمت أوراق اعتمادي، وأظن يا أخي أنها قبلت، فملامحها الرحبة لم تحو استنكارا أو نفورا، إنما طاف بها اندهاش واضطراب نتيجة المفاجأة، ومس من خجل أظنه السبب في حمرة الوجنتين، وأظن أيضا أنني رصدت طيف سرور فاستبشرت، إلا أن ما أربكني تصفيق القوم، فكأنهم أدركوا ما رميت إليه، وفهموا ما عنيت، فحيوا إقدامي، لم آتِ شيئا فريا، إنما اندفعت إلى المجاهرة، فالزمن غير مساعد، وعلى قدر المدة تكون العدة، ولو أنني أمتلك أيامي هنا لمددت خطاي.