فيروز في «إيه في أمل» موسيقى لزياد الرحباني
هو الإصدار المنتظر لفيروز، وكما جرت العادة في كل جديد لها، ها هي تثير الجدل حول غرابة الأشعار التي يناط بها أن تغنيها، من صلب موضوعات حياتية، ومن ضمنها العواطف التي تسلك برؤية زياد طرقات غير تلك المعتاد عليها، وإن كانت تبدو طبيعية لمجتمعات تحتمل التجريب في الموسيقى، خصوصاً الموسيقى المفتوحة على أساليب غربية وحديثة.
فالأغنية الأولى في هذا المنتج تحمل عنوان «قال قايل عن حبي مش حلو»، وتأتي حركة الأوركسترا مخفّفة رغم استخدام آلات النفخ التي تعمل على تفخيم الموسيقى، إلا أن تدخّل الكمنجات يمنح السلام للموسيقى الخلفية لصوت فيروز، مرتكزة على نقرات القانون والطبلة والرق، لتأتي القطعة الموسيقية شعبية، رغم تعقيدات التوزيع الموسيقي، والتلاعب بالنص اللفظي الذي يصعب على المستمع ترداده من المرات الأولى.
في الأغنية التالية، ضربات البيانو وصوت فيروز ينفردان في المقدّمة بلحن يبدو مألوفاً، فهو من المسيرة «الزيادية» التي لا تشبه أيّاً من الأعمال الدارجة والتي نستمع إليها في يومياتنا بكل محتوياتها «الناشزة». وهذا يهدّد الأذن بحيث تجد صعوبة في تفهّم والتفاهم مع النص الحديث أو التوزيع الموسيقي الأوركسترالي..
ضربات الإيقاع التي تأتي هوائية وهذا هو ما يسمّى في علم الموسيقى (سنكوبيشن) نحتاج وقتاً لنتآلف معها، إلا أن زياد يكسر هذا التعقيد عندما يصل إلى الجملة التي تحتمل التطريب (يا سلام/ على بكرا يا سلام/ يا سلام/ من هلاء يا سلام)... واللافت أن صوت فيروز يغني الكلام فيما الآلات تغرد في خطوط مختلفة، مستغلاً علم الهارموني بسلاسة مفرطة، تاركاً حوارات موسيقية تعطي بعداً آخر للكلام الغارق في رومانسية تكاد أن تضيع في زحام الإنتاج الموتور.
تأتي الأغنية الثالثة بحركة كلاسيكية تسيطر عليها دورة الكمنجات المتناغمة حول بعضها، يكسرها صوت الرق الشرقي إلى جانب صوت فيروز برفقة الغيتار وأصوات الكورال النسائي وأنغامٍ يطغى عليها الجاز (كل ما الحكي يطول أكتر/ بتقول/ بتصير معقول/ تحكي الصحيح).
(كبيرة المزحة هي) يأتي صوت فيروز بأعلى صورة للهزيمة (بآخر الليل كونك بقيت.. بتحبني/ بتقول/ أو يمكن ما بتحبني) في مطلع الأغنية صوت بيانو إلى جانب آلة الترونبون، آلة نفخ حزينة وعريضة تدفع باتجاه الانكسار العاطفي المفعم إلى جانب الدرامز المسيطر، والكونترباص في أجواء (جازية) خالصة تكرّسها فيروز بكلمة (حبني بس..حبني..) هذه الأغنية تبدو خاصة، وصادقة، ينسبها سامعها إلى حالة حب وقعت، أو ستقع ذات يوم. في أغنية (بتذكر شو كنت تقلًي) ينقلنا زياد إلى جناح آخر من صوت فيروز، في حالة شرقية من خلال المزاهر (آلات الإيقاع المستخدمة عادة في الأناشيد الدينية)، وتأتي جملة (الله كبير) لتزيد من حالة الإنشاد الصوفي.
"الأرض لكم" تنفرد فيروز بكلمات جبران خليل جبران يرافقها زياد على البيانو بهذا اللحن القديم من أعماله.
زقزقة عصافير وعواء كلب في مكان ما ينقلنا مباشرة من خلال لحن شعبي يلامس لحناً لسيد درويش(مخسبوبكم داس) من الناحية الإيقاعية والنغمية. (حبيت ما حبيت) قدّمتها فيروز في حفلتها بأجواء تعيد مهرجانات بعلبك، راقصة ودابكة بكسر الإيقاع (يا ضيعانه .. يا ضيعانه) موسيقى راقصة تبعث على الفرح وهي من أجواء «عودك رنان» وما تبعها من الألحان الشعبية التي تطلبها فيروز من زياد كما في أغنية «مش فرقة معاي»..
تتخلل هذا الألبوم مقطوعتان موسيقيتان لزياد رحباني بأجواء مختلفة (ديار بكر) كان قدّمها في عدد من حفلاته مهدياً إياها إلى (المناضل) عبدالله أوجلان، وتل الزعتر التي تحكي مأساة فلسطينية ـ لبنانية تحوّلها النوتات المتصاعدة إلى ملحمة، وإن غاب عنها الكلام فيمكن التقاط الصور من ضربات البيانو.
تأتي أغنية «بنت الشلبية» وكأنها تعيد الزمن إلى أجواء الإذاعة اللبنانية والأخوين الرحباني، رغم انتماء هذه الأغنية إلى التراث الشعبي، ليعيدها زياد بكلمات وفية لوالده عاصي ولعمّه منصور بصوت الكورس يغني (بتبقى أساميهن عندي لعاصي ومنصور) ويغيب صوت فيروز عن هذه الأغنية لتبقى التحية من زياد!
هذا العمل سيضيف للمكتبة الموسيقية اللبنانية والعربية أفكاراً تبدو للوهلة الأولى غير مألوفة ـ ومتوترة شعرياً، لكن الوقت سيخرج هذا العمل من (وهرته) إلى فضاء القبول وإن غضب «الفيروزيون» الذين أتعبهم زياد، وإن كنت أراهم يلتحقون به، كونه الوريث الشقي والشرعي للرحابنة.
مدرسة ملحم بركات... أستاذ واحد من دون تلاميذ!
لا يشبهه أحد، ولا يشبه أحداً. هكذا هو ملحم بركات، يغني على ليلاه ويحصد نجاحاته وحيداً من دون «جميل» من أحد... يلحّن ويغنّي ويبهر جمهوره مرّة بعد مرّة، من دون أن يدخل كل هذه الألاعيب التي تضفي شيئاً من البهجة على وجه «المطرب» العصري في واحدة من المغامرات «الكليبية» التي يدخلونها بلباس الفرسان وهم ليسوا بفرسان، ومرّة عشاقاً وليس لهم من ضروب العشق إلا ترداداً لكلمات كتبها تجار الكلام وما أكثرهم، ومرّات معشوقين بأوامر من المخرج، ومرات يرتدون وجه الحزن فيثيرون الشفقة.
ملحم سيد مسرحه، يغنّي ويغنّي حتى تنتهي حصة الغناء، برغبة من الجمهور الذي يبحث عن جديد ملحم، عبر الراديو أو بالذهاب إلى الأماكن التي يغنّي فيها، من ملاهٍ أو مسارح أو قلاع... ينتظرونه في إطلالاته التلفزيونية وإن كانت قليلة، لكنها ممتعة من نواح عدة، ليصبح نجم البرامج المنوّعة، ولا يوجد من ينافسه إلا واحد وهو زياد الرحباني كما يقول ملحم بركات.
أغنيته الجديدة «بدك مليون سنة لتعرف أنا مين» وأغنية أخرى بعنوان «صاير كذاب اللي بحبه صاير كذاب»، أغنيتان خالصتان وجاهزتان للحفظ من جمهوره المنتشر في طول البلاد العربية، المحب للفن اللبناني المتميّز، وخاصة إذا كان المصدر ملحم بركات. نراه في تونس أو في الأردن أو في سوريا حاضراً بكل مكوّناته الفنية ليسمع صوته متمترساً خلف ألحانه المنسابة المطواعة له، يحرّكها على سجيته كما في أغنيته «على بابي واقف قمرين» حيث أعاد تجربة المطربين القدامى باستحضار (السلطنة) بأسلوب دفع بالجمهور إلى انتظار هذه الجملة، مردّداً معه (ووواو ووواو واه) لعلّها تبدو فكاهية وهي تحتمل هذا، إلا أن من الناحية الموسيقية هي حالة طربية صوفية، أو شبيهة إلى حدّ بموسيقى الجاز في لحظات تجل قليلة تحصل على المسارح، عندما يقترب الفنان من أعلى نقطة في الإحساس لتكتمل العناصر المكوّنة للمتعة: الكلمة واللحن والعازفون والجمهور والمكان وتتجمّع في نبرة خالصة، موحّدة، ومبهجة.
الأغاني الجديدة لملحم بركات امتداد لمدرسة هو ناظرها ومديرها وأستاذها وتلميذها...ليس هناك من مطرب لبناني أو عربي يستخدم أسلوب بركات في المغنى. ولم ينقل تجربته الناجحة إلى الأجيال التي تربّت على صوته، كما حصل مع وديع الصافي أو عبد الحليم، أو من أجيال جاءت بعده كالوسوف وراغب علامة أو آخرين، وهنا لا بدّ من السؤال: هل هناك صعوبة في تقليد هذا السهل الممتنع من الأغاني؟
الجواب على ما يبدو نعم، قد يغني مطربو السهرات بعضاً من أغانيه لإمتاع الساهرين الذين يعتمدون على أنفسهم في الدرجة الأولى، فحين تأتي أغنية لملحم بركات يغنّونها بأنفسهم على اعتبار أنها مُلك لهم، وهنا تأتي ميزة أخرى لهذا المطرب (الحر)، فهو غير خاضع لشروط شركات الإنتاج، ولا ينتظر التلميع من وسائل الإعلام المدفوع، ولا يمتثل لشروط السوق في توقيت الأغنية، إنما يقدّم أعماله كما يحب أن يسمعها ويراها هو ذاته، لتأتي الجملة اللحنية مشبعة إن كانت شرقية كما في أغنيته الجديدة «بدك مليون سنة» أم غربية كما في أغنية «ما يهمنيش».. يكسرها بالإيقاع الشرقي وبحركة مسرحية تبعث على الانسجام.
ملحم بركات شريك في عصر النهضة للأغنية اللبنانية. شارك الرحابنة وانسحب قبل أن تلبسه «اللعنة» الرحبانية التي تبقي الكبار صغاراً خارج مسرحهم. غنّى ومثّل وتجرأ على «الجنون» في إطار التجريب الفني. تسلّل بهدوء إلى المقدمة، خرج من معارك العشق جريحاً لكنه سرعان ما تعافى، ليستغلّ تلك المرحلة التي غنّاها بصوته المجروح كعاشق يصرخ ألم النكران من حبيب (جاهل) لا يعرف أصول العشق.
أغاني ملحم الجديدة والقديمة لها نكهة المواسم، تأتي كما الكرز في الصيف والفريز في الشتاء، وشقائق النعمان في الربيع، ويهدر صوته أحياناً كنهر جبلي خبأه الصيف بين أغصان الجوز...
أكتب لصوت ملحم بركات لأنـه يذكّــرني بأهمية حاسة السمـــــع في زمـن الطرشان.