mena-gmtdmp

في ميدان التحرير أيضًا (2)

حتى تكتمل سيطرة إسرائيل على شبه الجزيرة الضخمة تقدم الطابور لإتمام الاحتلال، غير أن مجموعة صغيرة من مقاتلي الصاعقة يقودهم المقدم –وقتئذ- إبراهيم الرفاعي تصدوا لهذه القوة المدرعة، واشتبكوا معها ودمروها، كانت البيانات العسكرية تصدر مختصرة، موجزة، حذرة بعد بيانات يونيو، وطوال سنوات حرب الاستنزاف البيانات تعد متحفظة إذا ما قورنت بما يتم على أرض الواقع، كان البناء العسكري يتم خطوة خطوة، وكان يتم من خلال الاشتباك، وكان الزعيم يتابع أدق أموره بنفسه، لقد أصبح الأمر يتعلق بروح مصر، وسمعة العسكرية العربية كلها، كان التحدي رهيبًا، غير أن الجهد المبذول، والعزم كان أسطوريًا، ويشاء قدري أن أبدأ عملي في الصحافة عام 1959، في بداية أخطر مراحل حرب الاستنزاف، طوال الفترة من يونيو 1967 إلى 9 مارس 1969، وجرى البناء العسكري موازيا للاشتباك عبر القناة، ومر ذلك بمراحل سأعود إليها، ولكن استيقظت على حدث مهول؛ إذ استخدمنا طريقة المؤرخين القدامى في الوصف.
ماذا جرى؟
لقد أذيع بيان عسكري، وبيان من الزعيم جمال عبدالناصر، ينعي إلى الأمة المصرية والأمة العربية نبأ استشهاد الفريق عبدالمنعم رياض في الخط الأمامي من جبهة القتال، بالتحديد في منطقة الفردان المطلة على مياه القناة مباشرة، لقد أتيح لي أن أزور موقع استشهاده عدة مرات فيما بعد، وسوف أعود لوصفه تفصيلاً، لقد استشهد الرجل في أقصى نقطة متقدمة، في موقع يمكن رصد أي إنسان فيه؛ لأن مواقع العدو كانت أعلى بسبب أن ناتج الحفر لقناة السويس كان يلقى شرقا وليس غربا؛ لذلك أصبح الجيش الإسرائيلي في مواضع حاكمة تمكنه من كشف أي تحركات على الضفة الغربية، كان القناصة نشيطين جدًا، وإذا رصد أي هدف يتم قصفه بدقة، حققت القوات المسلحة المصرية المعادلة المستحيلة، إعادة البناء العسكري من خلال الاشتباك اليومي، في نفس الوقت كانت هناك فجوة، أو بتعبير آخر مسافة بين الشعب والقوات المسلحة، لم تكن حقيقة ما جرى معروفة، لكن بالنسبة للشعب كانت المؤسسة العسكرية هي التي تتحمل المسؤولية، لكن الموقف تبدل تماما صبيحة التاسع من مارس، لقد استشهد رئيس الأركان في المقدمة بين رجاله، وكان الخبر كفيلاً بإلغاء تلك المسافة، كانت الصورة العامة للفريق رياض غامضة، لم يكن أحد يعرف عنه شيئًا، لكن ملامح وجهه كانت طيبة، وكانت سيرته وسمعته تسبقانه، وقد عرفت مثل كل الناس معلومات أكثر عنه، وكتبت عنه كثيرًا، وأخذت على نفسي عهدًا أن أذكر به وبآخرين أتيح لي الوقوف على ما قدموه في الحرب، فأنا خبير بالنسيان... آفتنا العربية.
لن أنسى ميدان التحرير صباح التشييع، مصر كلها خرجت لتوديع الشهيد، عندما دخلت الميدان قادمًا من القاهرة القديمة رأيت مشهدًا أسطوريًا بحق، الميدان غص بالبشر، ربما مليونان، ثلاثة ملايين، كلهم صامتون تمامًا، حداد أسطوري، وحزن وافد من عمق الزمن، هذا الصمت تبدد عندما تحرك الموكب، عربة المدفع تحمل جثمان الشهيد، الزعيم يتقدم الجنازة، الناس يحيطون به، الطوق الأمني ينكسر عند بداية شارع سليمان باشا، يصبح عبدالناصر وجها لوجه مع الناس، كنت قريبًا جدًا، فجأة تحيط به مجموعة من الشباب الأقوياء، والرجال متقدمي السن، أناس عاديون من عامة الشعب، ربما يراهم لأول مرة ويرونه، يشكلون طوقا بشريًا حوله، يستمر تشييع الشهيد العظيم في مشهد أعظم.

رأيت ذلك بأمّ عيني في ميدان التحرير.