الدراما المغربيّة: بعد الكمّ، متى الكيف ؟

هل الدراما التلفزيونيّة هي مجرّد صور وحكايات وشخوص وانفعالات تُداعب عواطفنا، بكاءً أو ضحكاً، وننساها؟ أم هي إبداع فنيّ كُتب ليُخلّف أثراً في الفكر والنّفس، ويبصم ذاكرتنا بقيم إنسانيّة نبيلة. هل الدراما هي مجرّد مساحة زمنية تملأ الشاشات، وتملأ جيوب المنتجين، على حساب عرق الفنّانين و ذكاء المشاهد، وخدمة المواطن، أم هي مادّة إعلانيّة تتوخّى الخدمة العامّة والتثقيف والتربية والرقيّ بالذوق والتّعبير عن التعدديّة؟. هل الدراما التلفزيونيّة بالمغرب هي مجرّد إنتاجات بالصّدفة، أم هي منتج إبداعيّ، له بناء فكريّ ورؤية استراتيجيّة ونتاج تخطيط مسبق لأبعاده النفسيّة والاجتماعيّة والسياسيّة.
أمّا ما نشاهده من إنتاجات دراميّة ارتجاليّة ومتسرّعة تملأ شاشات القنوات العامّة المغربيّة، فلا نملك سوى التساؤل عن الجدوى من هذا الكمّ الهائل من الإنتاجات والهدر للمال العام، في ظلّ غياب أيّ مشروع إعلاميّ مهنيّ واضح يُحدّد الدراما التي نُريد، والمواطن الذي نُخاطبه في الألفيّة الجديدة، وفي ظلّ غياب رؤية دنيويّة، توضح الأسس الفكريّة والجماليّة للأهداف المتوخّاة من الدراما تجاه الوطن والمجتمع والمشاهد وتراثنا الحضاريّ المشترك.
لا يُنكر اثنان بأنّ الدراما المغربيّة قد شهدت في العشريّة الأخيرة طفرة في الكمّ، من حيث عدد الإنتاجات السنويّة، واكبها تطوّر في التقنيّة وحرفيّة عالية في التمثيل، وتنوّع في الأساليب الإبداعيّة من المسلسل إلى "السيتكوم"، إلى الفيلم التلفزيونيّ، ومن الدراما إلى الفكاهة، ومن المواضيع الاجتماعيّة إلى التاريخيّة والبوليسيّة، وحتّى الدينيّة.
هذا التطوّر الكمّي منح فرص الشّغل للعديد من المتخصّصين والفنيين والتقنيين، وتطور مستوى التكوين وتأهيل العنصر البشريّ ومجال الإنتاج والمقاولات الفنيّة المتخصّصة. لكن مقابل كلّ هذا التطوّر الكمّيّ لم تشهد الدراما ـ للأسف ـ أيّ تطوّر للكيف، على مستوى الكتابة وعمق المضامين، باستثناء بعض الفلتات الإبداعيّة التي هي نتاج مبادرات فرديّة وإبداعات شخصيّة أكثر من رؤية استراتيجيّة مدروسة، فالدراما لازالت لدى الإعلام العموميّ (وهو المنتِج الوحيد بالمغرب) مجرّد وسيلة للتسلية والترفيه وأداة لتكريس الوضع الراهن وتنميط المشاهد على نفس القيم ونفس الذوق والعادات السيّئة، ولازلنا نعاني من سوء تقدير خطورة الإنتاج الدراميّ وتأثيره السّلبيّ على البعد التربويّ لمواطن الغد، إذ تتكرّر نفس المواضيع السطحيّة والصور النمطيّة عن المرأة والرجل، وعن البدويّ والفقير، كما تتكرّر نفس العنصريّة والتمييز الطبقيّ والجنسيّ، مع السخرية من العاهات واللوم واللهجات، من دون التغيير في المضامين المكرِّسة للتخلّف الفكريّ وللخرافة والأفكار الرجعيّة. وإذا كانت هذه الأشكال والمضامين تفسح مجالاً آنيّاً للتسلية والضّحك، فإنّها للأسف تخرّب الذوق وتهين كرامة المواطن، وتُكرّر المفاهيم والأفكار المتخلّفة عن الإنسان والمجتمع، وتسوّق صورة فلكلوريّة متجاوزة عن المغرب، تُظهرنا للعالم الآخر مجرّد بلد بدويّ، شبابه مخدّرون، ونساؤه يخطفون الرجال بالشّعوذة والسّحر، ورجاله انتهازيّون، بل أكثر من ذلك؛ حتّى التنوّع الجغرافيّ والجماليّ الطبيعيّ والعمرانيّ والحضاريّ يكاد يكون غائباً، في أغلب الإنتاجات؛ فالمغرب في مسلسلاته الدراميّة مجرّد قرية كبيرة معزولة عن الحداثة، إلى درجة أنّ إبداعاتنا الأدبيّة والموسيقيّة والتشكيليّة المتطوّرة لمبدعينا المُعاصرين، تكاد تكون غائبة أمام توظيف متكرّر وغير مفهوم لنفس الكتابات المحتفية بالتقليد، والمقتبسة من تراث الأجداد.
آن الأوان للقيام بدراسة تأمّليّة لمسار الدراما المغربيّة، للخروج بالدروس والعبر، ولوضع مخطّط واضح للدراما التي نُريد، ولأيّ مواطن، وأن نفتح المجال للأقلام المحترفة في الكتابة، والعقول المبدعة في الموسيقى والإخراج والأداء والتشكيل والتعبير الجسديّ، وأن نرسم للجميع خطّة واستراتيجيّة مدروسة للخروج من عنق الزجاجة.
فلنستيقظ من كذبة النّجاح الكميّ والوقوف على الحقيقة المرّة؛ حقيقة الفشل النوعيّ، وغياب الأثر الإيجابيّ للدراما المغربيّة على المتلقّي.